(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) [الفرقان : ٥٠] وقال : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الحديد : ٩].
وقال : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥].
وقال : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [إبراهيم : ١٠].
وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وأمثال هذه الآيات كثيرة. ونحن نعلم بالضّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن ، فعلمنا أنّه لا يمكن حمل قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) على ظاهره.
الثاني : أنه تعالى قال بعدها : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) ذكر ذلك في معرض الذم لهم ، ولو كانوا مخلوقين للنّار ما كانوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا : فيقبح ذمّهم على ترك الإيمان.
الثالث : أنّه تعالى لو خلقهم للنّار لما كان له على أحد من الكفّار نعمة أصلا ؛ لأنّ منافع الدّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم ، كالقطرة في البحر ، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنّه لا يكون منعما عليه ، فكذا ههنا ، ولمّا كان القرآن مملوءا من كثرة نعم الله على كل الخلق علمنا أنّ الأمر ليس كما ذكرتم.
الرابع : أنّ المدح والذّمّ ، والثّواب والعقاب ، والترغيب والترهيب ، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الخامس : لو خلقهم للنّار ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النّار ؛ لأنّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
السادس : أن قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) متروك الظّاهر ، لأنّ جهنّم اسم للموضع المعين ، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيّن مرادا منه ، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف. وكأنّه قال : ولقد ذرأنا لكي يكفروا ، فيدخلوا جهنم ، فصارت الآية متروكة الظّاهر ، فيجب بناؤها على قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) [الذاريات : ٥٦] لأن ظاهرها يصح بدون حذف.
السابع : أنه إذا كان المراد أنّه ذرأهم لكي يكفروا ، فيصيروا إلى جهنم ، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللّام لام العاقبة ، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنّه لا استحقاق للنّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار. فكان قولنا أولى.
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، فوجب المصير إلى التأويل ، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والإنس هي دخول النّار ، جاز ذكر هذه اللّام بمعنى العاقبة.
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشّعر.