العاشر : أن تلك الذّرات إمّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم ، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول.
فنقول : إمّا أن يقال إنّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك ، والأوّل باطل ببديهة العقل. والثاني : يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات : وقت الميثاق ، وفي الدّنيا ، وفي القبر ، وفي القيامة وأنه حصل له الموت ثلاث مرات : بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأول ، وموت في الدّنيا وموت في القبر ، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١].
الحادي عشر : لو كان القول بهذا الذّرّ صحيحا لكان ذلك الذّر هو الإنسان ؛ لأنّه هو المكلّف المخاطب المثاب المعاقب ، وذلك باطل ؛ لأنّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة ، والمضغة ، والقرآن يدلّ على أنّ الإنسان خلق من النّطفة ، والعلقة. قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] الآيات.
وقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٧ ـ ١٩] فهذه الوجوه دلّت على ضعف هذا القول.
وقال أرباب المعقولات : إنّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم ، وذلك الإخراج حال كونهم نطفا ، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمّهات ، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشرا سويّا وخلقا كاملا ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيّته ، وغرائب صنعته ، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى ، وإن لم يكن هناك قول باللّسان ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].
وقال تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].
وقول العرب : قال الجدار للوتد لم تشقّني قال : سل من يدقّني (١).
وقال الشاعر : [الرجز]
٢٦١٧ ـ امتلأ الحوض وقال قطني |
|
مهلا رويدا قد ملأت بطني (٢) |
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه ، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة ، وليس منافيا لصحة القول الأول.
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٥ / ٥٠.
(٢) ينظر : التهذيب (قطط) ، إصلاح المنطق ، ٥٧ ، ٣٤٢ ، مجالس العلماء ١ / ١٥٨ ، مقاييس اللغة ٥ / ١٣ ، ابن الشجري ٢ / ٤٠ ، شرح التسهيل ١ / ١٥١ ، شرح الجمل ١ / ٨٧ ، الإنصاف ١ / ١٣٠ ، التفسير الكبير ٤ / ٧١ ، الخصائص ١ / ٢٣ ، الصحاح ٣ / ١١٥٢ ، اللسان (قطط).