فصل
لمّا بيّن صفة من تكتب له الرحمة في الدّنيا والآخرة وهو أن يكون متقيا ويؤتي الزكاة ، ويؤمن بالآيات ، ضمّ إلى ذلك أن يكون متّبعا للنبي «الأمّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل» واختلفوا في ذلك.
فقال بعضهم : المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته.
وقيل في قوله : والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل ؛ لأنّ من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
وقيل المراد بهم : من لحق من بني إسرائيل أيّام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فبيّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلّا إذا اتبعوا الرسول الأمّيّ ، وهذا هو الأقرب ، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن.
ووصف هذا النبي بتسع صفات :
الأولى : كونه رسولا ، وهو في العرف من أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التّكاليف.
الثانية : كونه نبيّا ، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى.
والثالثة : كونه أميّا.
قال الزجاج : وهو الذي على صفة أمة العرب ، كما تقدم في قوله عليهالسلام : «إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب».
قال المحقّقون : وكونه أميّا بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :
الأول : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ، ولا تغيير كلماته ، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها ؛ فلا بد أن يزيد فيها ، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ، فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].
الثاني : لو كان يحسن القراءة والخطّ لكان متّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلّما أتى به من غير تعلم ، ولا مطالعة ؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المراد من قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].
الثالث : أن تعلّم الخط شيء سهل فإن أقلّ النّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلّ على نقص عظيم في الهمم ، ثم إنّه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر ، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيث