يستغن ، يغنه الله ، ومن يستعفف ، يعفّه الله ، لأن يأخذ أحدكم حبلا يحتطب فيه فيبيعه بمدّ من تمر خير له من أن يسأل النّاس» (١).
فصل
اعلم : أنّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه ، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد ؛ نحو : «ما رأيت رجلا صالحا» ، الأكثر على أنك رأيت رجلا ، ولكن ليس بصالح ، ويجوز أنّك لم تر رجلا ألبتة ؛ لا صالحا ولا طالحا ، فقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) المفهوم أنهم يسألون ، لكن لا بإلحاف ، ويجوز أن يكون المعنى : أنهم لا يسألون ، ولا يلحفون ؛ والمعنيان منقولان في التفسير ، والأرجح الأول عندهم ، ومثله في المعنى : «ما تأتينا فتحدّثنا» يجوز أنه يأتيهم ، ولا يحدّثهم ، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدّثهم ، انتفى السبب ، وهو الإتيان ، فانتفى المسبّب ، وهو الحديث.
وقد شبّه الزجاج ـ رحمهالله تعالى ـ معنى ههذ الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس ؛ وهو قوله: [الطويل]
١٢٤٤ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره |
|
إذا سافه العود النّباطيّ جرجرا (٢) |
قال أبو حيّان : «تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين ، أي : لا سؤال ولا إلحاف ، وكذلك هذا : لا منار ولا هداية ، لا أنه مثله في خصوصيّة النفي ، إذ كان يلزم أن يكون المعنى : لا إلحاف ، فلا سؤال ، وليس تركيب الآية على هذا المعنى ، ولا يصحّ : لا إلحاف ، فلا سؤال ؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، كما لزم من نفي المنار ، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه ، وإنما يؤدّي معنى النفي على طريقة النّفي في البيت أن لو كان التركيب : «لا يلحفون الناس سؤالا» لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف ، إذ نفي العامّ يدلّ على نفي الخاص ؛ فتلخّص من هذا : أنّ نفي الشيئين : تارة يدخل حرف النفي على شيء ، فتنتفي جميع عوارضه ، وينبّه على بعضها بالذكر لغرض ما ، وتارة يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه ، والمقصود نفيه ، فتنتفي لنفيه عوارضه».
قال شهاب الدين : قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال : «تشبيهه ليس مثله في خصوصية النفي ؛ لأنّ انتفاء المنار في البيت يدلّ على نفي الهداية ، وليس انتفاء الإلحاح ،
__________________
(١) أخرجه أحمد (٢ / ٤١٨) والطبري في تهذيب الآثار كما في «كنز العمال» (١٦٧٤٦) وأبو يعلى (١٢ / ٤٧) رقم (٦٦٩١) الشطر الأول منه وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٩٥) وقال : رواه أبو يعلى من رواية محمد بن عبد الرحمن عن سهيل والعلاء ولم أعرفه.
(٢) ينظر ديوانه (٩٥) ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٩٢ ، الخصائص ٣ / ١٦٥ ، معاني الزجاج ١ / ٣٥٧ ، أمالي المرتضى ١ / ١٦٥ ، اللسان : سوق ، الدر المصون ١ / ٦٥٧.