الأصمّ ، وأتباعه أنها غير واجبة في الدين ـ وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ،
__________________
ـ يكون هو المرجع في تعريف الأحكام الشرعية ، وتنظيم شأن المجتمع ، حتى يسود العدل ، ويستقرّ في نصابه ، وينتظم أمر الدين والدنيا.
هذه أدلة القائلين بوجوب نصب الخليفة ، على اختلافهم في طريق الوجوب.
أما القائلون بعدم وجوب نصب الخليفة ، فاستدلوا بما يأتي :
الأول : توفر الناس على مصالحهم الدنيوية ، وتعاونهم على واجباتهم الدينية مما يحث عليه طبعهم ، وينادي به دينهم ، فلا حاجة بهم إلى قيام حاكم عليهم فيما يستقلون به ؛ ويدل على ذلك انتظام أحوال العرب ، وأهل البادية النائين عن السلطان وحكمه.
الثاني : انتفاع الناس بالخليفة لا يكون إلا بالوصول إليه ، ولا يخفى أن وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يطرأ لهم من الأمور الدنيوية متعذّر عادة ، فلا فائدة إذا في نصبه للعامة ؛ فلا يكون واجبا ، بل جائزا. الثالث : اشترط العلماء في الخليفة شروطا قلّما تتوفّر في كل عصر ؛ وعلى ذلك فإن أقام المسلمون فاقدها ، لم يأتوا بالواجب عليهم ، وإن لم يقيموه ، فقد تركوا الواجب ، فوجوب نصبه يستلزم أحد الأمرين الممتنعين ؛ فيكون ممتنعا.
ورد دليلهم الأول : بأنه وإن كان ممكنا عقلا ، فهو ممتنع عادة لما نشاهده من قيام الفتن ، وحدوث الخلاف والشقاق عند موت الولاة ؛ حيث كان العرب من سكان البادية قساة غلاظا أجلافا يشنون الغارات لأتفه الأسباب ، ويقتلون الأنفس والذّراري ؛ فهم إذن بعيدون عن آداب الدين وسياسة الدنيا.
ورد الثاني : بمنع ما يدعونه من أن الانتفاع بالإمام لا يكون إلا بالوصول إليه فقط ، بل كما يكون بالوصول إليه يكون بوصول أحكامه وسياسته إلى الرّعية ، ونصبه من يرجعون إليه في مصالحهم.
ورد الثالث : بأن الواجب على المسلمين أن يبايعوا من كان مستجمعا للشروط الواجبة ، فإذا تعذّر وجود بعض الشروط ، دخلت المسألة في حكم الضرورات ، والضرورات تقدر بقدرها ، فيكون الواجب حينئذ مبايعة من كان مستجمعا لأكثر الشروط من أهلها ، مع الاجتهاد ، والسعي لاستكمالها كلّها فيه.
قال ابن خلدون بعد أن ذكر مذهب القائلين بجواز نصب الخليفة : «والذي حملهم على هذا المذهب ، إنما هو الفرار عن الملك ، ومذاهبه ؛ من الاستطالة والتغلّب ، والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك ، والنعي على أهله ، ومرغبة في رفضه ، واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ، ولا حظر القيام به ، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم ، والتمتع باللّذات ، ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة ، وهي من توابعه ؛ كما أثنى على العدل والنصفة ، وإقامة مراسيم الدين ، والذب عنه ، وأوجب بإزائها الثواب ، وهي كلها من توابع الملك ، فإذا وقع الذم للملك على صفة ، وحال دون حال أخرى ، ولم يذم لذاته ...» الخ.
خلاصة القول : أن وجوب نصب الخليفة الذي ذهب إليه جمهور العلماء ليس وجوبا عينيا ، بل هو وجوب كفائي ، شأنه شأن سائر الواجبات الكفائية ؛ من جهاد ، وطلب علم ، ونحو ذلك ، فإذا قام بهذه الوظيفة من يصلح لها ، سقط وجوبها عن كافة المسلمين ، وإن لم يقم بها أحد ، أثم من الناس فريقان : الأول : أهل الاختيار المعروفون بشروطهم ، حتى يختاروا خليفة المسلمين.
والثاني : أهل الخلافة ، حتى ينتصب أحدهم ، ويتولى أمورها ، وليس على غير هذين الفريقين من الأمة حرج ولا مأثم.
ينظر الخلافة أو الإمامة العظمى للسيد محمد رشيد رضا : (ص ٢٦).
مقدمة ابن خلدون ، (ص ١٦٠).
«الأحكام السلطانية» للماورديّ (ص ٣).