فقد غاب عن « ابن قتيبة » إنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه ، بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه وذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي وانّ وجوده سبحانه وجود فوق الزمان والزمانيّات والمكان والمكانيّات ، غني عنهما ، لا يحتاج إليهما ، بل هو الخالق لهما ، وأمّا الحديث الذي استدل به فليس فيه دلالة على تصديق رسول الله بكلّ ما تعتقده الاُمّة بل انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه ونبوّة نبيّه وان اخطأت في الحكم بأنّه في السماء ولم يكن الظروف ـ إذ ذاك ـ تساعد ، أو لم تكن الاُمّة مستعدّه لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان والزمان والجهة ، وإنّه ليس جسما ولا جسمانياً حتى يحلّ في السماء.
وهناك طائفة اُخرى يسلكون طريقاً وسطاً لا يوافقون أهل التشبيه ـ بصبّ المعارف العليا في قوالب جسميّة وصفات ماديّة ـ ولا أهل التعطيل فلا يسدّون نوافذ عقولهم وأفهامهم من التطلّع إلى ماوراء الطبيعة والوقوف على ما هناك من أسماء وصفات وحقائق رفيعه لا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الإنسان ، وهؤلاء يقولون : إنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال والعالم الفسيح ، عن طريق التدبّر وامعان النظر ، إمّا بترتيب الأقيسة المنطقية وتنظيم الحجج العقلية ، أو بالنظر إلى ما يحتوي عالم الطبيعة من آثار ذلك الجمال وآياته ، فعنذ ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه ومغبّة التعطيل ، وإفراط المجسّمة وتفريط المعطّلة وهذا هو الذي يحصل به الجمع بين آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وقد عرفت بعض الآيات الداعية إلى التدبّر والامعان في كلّ ما ورد في الكتاب من الحكم والمعارف (١).
__________________
(١) ويكفيك انّ الذكر الحكيم يستعمل مادّة التعقّل في مشتقّاته المختلفة ٤٧ مرّة والتفكّر ١٨ مرّة واللب ١٦ مرّة والتدبر ٤ مرّات والنهي مرّتين.