عن الماء الحلو ، إلا أنه لا يقوم مقامه في العذوبة والحلاوة ، لاكن يكتفى به عند عدم غيره. فسألنا عن ذالك رئيسه ، فأخبرنا بما مضمنه ، أنهم يقطرونه حتى ترتفع ملوحته لأعلا ويبقى الأسفل حلوا ، أو بالعكس لم أتحقق ذالك منه وقتئذ لعدم فصاحة الترجمان. وذكر لنا في طي ذالك تشبيها ، وهو أن ماء المطر يرتفع من البحر وتذهب ملوحته بحر الشمس فكذالك هذا ، وحرارة النار تقوم مقام حرارة الشمس ، هذا ما ذكر لنا ولم يبلغنا بحقيقة الكيفية ، وجرب ففي التجريب علم الحقائق.
وعندما طلعنا له تلقونا بموسيقاهم وطنابيرهم (١) ، وبعد أن حصلنا فيه رفعوا راية سلطاننا حتى جعلوها في رأس صاريهم الكبير العالي فوق بنديرتهم (٢) ، وأطلقوا من مدافع الفرح ما ينيف على الماية وثلاثين عمارة. ثم نزلنا منه وسرنا لنابيوس (٣) كبير أيضا فيه من المدافع ماية واثنان ، فطلعنا له فإذا هو من أعظم ما يكون وأتقنه ، وفيه ما يحير الناظر ، وبالجملة فهو مدينة حصينة على ظهر الماء. فتلقونا أيضا بالموسيقى وتصفيف من فيه من العساكر ، وكانوا كثيرين ، وبعد استقرارنا فيه رفع أيضا رايتنا فوق رايتهم ، وطلب منا أن نتماشى فيه لننظر ما هنالك. ومن طبعهم أنهم يعجبهم أن يروا ما عندهم ولا يتركون عندهم شيئا جليلا أو حقيرا إلا أطلعونا عليه. فمن جملة ما فعلوا لنا في هذا النابيوس مما هو في الظاهر فرحة ، وفي الباطن تخويف وقرحة ، مع أنا والحمد لله لا نخافهم وإنما نخاف الله.
أنهم أرونا كيفية حربهم بالمدافع في هذا المركب ، إذا عرض لهم فيه حرب ، بينما كل واحد من خدمته ومن يباشر ذالك جالس أو قائم في موضعه الذى هو فيه وهم على غفلة ، إذ صاح بهم كبيرهم فأقبلوا جميعا ، وكل واحد جاء قاصدا لشغله. فصاحب البارود مثلا جاء قاصدا لقرطاس البارود ، فأخذه وذهب به إلى مدفعه المعين الذي لا يذهب إلا إليه ولا يذهب لغيره. وكذالك صاحب المدق ومن يجبذ المدفع
__________________
(١) مفردها طنبور أو طنبار ، والمقصود بها هنا أصناف من الآلات الموسيقية (المعرب).
(٢) البنديرة ، وهي الراية ، وأصلها من الإسبانية بنديرة (bandera) ، ١١٨ : ١Dozy (المعرب)
(٣) ربما كان أصل هذه الكلمة من الإسبانية نافيو (navio) ، أي مركب. وكان الأمر يتعلق بالمركب الحربي الكبير المسمى جيمابيس (Jemmapes) ، الذي استعملته البحرية الفرنسية عند رميها لمدينة طنجة بالقنابيل قبل ذلك التاريخ بستين ، انظر الدراسة والهامش رقم ٥٨ في الصفحات السالفة من هذا الكتاب.