والآن وقد فرغنا من الكلام على جميع هذه المصنفات التى لا تخلو أحيانا من الأهمية والفائدة فى محيطها فإنه يجب ألا يغيب عن بالنا بأنها ليست هى التى تمثل الطابع المميز للأدب الجغرافى العربى بمصر فى ذلك العصر إذ أن شرف هذا يعود إلى سلسلة الموسوعات التى ظهرت إلى عالم الوجود فى ذلك العهد بالذات والتى سنتحدث عنها فى الفصل التالى لهذا. وفى الوقت نفسه تقدم لنا الشام عالمين يختتمان بجدارة هذا العصر ويحتلان إلى جانب أصحاب الموسوعات المكان الأول من بين مجموعة الكتّاب الذين لا يمكن تجاهلهم فى عرض عام للأدب الجغرافى عند العرب.
وكلا هذين المؤلفين لا ينتميان إلى الوسط الذى انتمى إليه الكتاب المصريون الذين ورد ذكرهم قبل قليل ؛ وأولهما وهو شمس الدين محمد بن أبى طالب الدمشقى ولد فى سنة ٦٥٤ ه ـ ١٢٥٦ (٢٤) أى قبل استيلاء هولاكو على بغداد بعامين فهو بهذا قد كان معاصرا منذ طفولته لسيل الحوادث الذى اجتاح العالم الإسلامى. وفى عام ١٢٦٠ الحق السلطانى بيبرس هزيمة نكراء بالمغول فى الشام فوضع بذلك حدا لتهديدهم لمصر ووثق العرى بين مصر والشام اللتين ظلتا طوال عهد المماليك خاضعتين لإدارة واحدة ؛ كما كان المغرب بدوره فى ذلك العهد مسرحا لحوادث كبرى فمنذ عام ١٢٦٤ لم يبق تحت السيادة العربية بأسبانيا سوى غرناطة. هذا وقد أمضى الدمشقى معظم حياته بمسقط رأسه دمشق إماما بمسجد الربوة ، ولقب بالصوفى لميوله التصوفية. ويبدو أن هذه الميول هى المسئولة عن اعتزاله العالم فى أواخر أيام حياته وإقامته بناحية من أعمال فلسطين حيث عاش عيشة الزهاد إلى وفاته فى عام ٧٢٧ ه ـ ١٣٢٧ ، أى قبل وفاة أبى الفدا بأربعة أعوام.
وعلى الرغم من جنوحه إلى التصوف إلا أنه خلف وراءه عددا كبيرا من المؤلفات يكشف بعضها عن اهتمام ومعرفة جيدة بالعلوم الدنيوية ؛ وأكثرها شهرة وأهمية بالنسبة لنا هو كتابه فى الكوزموغرافيا «نحنة؟؟؟ الدهر فى عجائب البر والبحر». وعلى نحو ما سنرى فإن طريقة تصنيفه للمادة تكاد تنطبق على طريقة القزوينى (٢٥) إلا أنه لا يكررها دون تدبر. وينقسم الكتاب إلى تسعة أبواب يشغل الأول منها المقدمة التقليدية فى شكل الأرض ووصف الأقاليم السبعة وفصول السنة وبعض الآثار القديمة ، أما الفصل الثانى فيحث فى المعادن والجواهر والأحجار الكريمة بينما يصف الثالث الأنهار والعيون والآبار التى تناقل ذكرها التاريخ ؛ والباب الرابع مكرس للكلام على البحار أما الخامس فيتحدث عن البحر الأبيض المتوسط خاصة ويتضمن وصفا مفصلا لميناء الإسكندرية بينما يعالج السادس الكلام على «بحر الجنوب» (أى المحيط الهندى). أما اليابس فقد أفرد له البابان السابع والثامن فيرد فى أولهما الكلام عن «الممالك المشرقية» ابتداء من الشرق الأقصى فى اتجاه الغرب وذلك على ثلاث مناطق متوازية تشمل الهند وإيران والشرق الأدنى ؛ ويعالج الثانى الكلام على القسم العربى من الأرض «الممالك المغربية» فيبدأ بوصف مصر