وليس فى وسعنا إحصاء جميع المؤلفات العربية فى الجغرافيا الإقليمية التى ظهرت فى العصور التالية لذلك ؛ وقد ظل الوصف التاريخى الطوبوغرافى من أهم الأنماط التى افتتن بها المسلمون إلى أيامنا هذه لا فى الأدب العربى وحده بل وفى الأدبين الفارسى والتركى أيضا.
ومن بين المجموعة الضخمة لمصنفات هذا الأدب التى ترجع إلى القرن العاشر يجب أن نفرد مكانة خاصة لمصنف يقف فريدا فى نوعه هو «صفة جزيرة العرب» للهمدانى الذى يعتبره اشبرنجرSprenger (٨٢) إلى جانب كتاب المقدسى أقيم ما أنتجه العرب فى الجغرافيا. ولم يكن هذا المؤلف معروفا للعلم الأوروبى قبل السنوات التسعينيات من القرن الماضى ، بل إن معلوماتنا عنه لا تزال ضئيلة للغاية إلى الآن ؛ وهذا أمر قد حدث مرارا لعدد من كبار الكتاب العرب ممن جروا على أنفسهم ريبة أهل السنة فى الأجيال التالية. هذا ومما زاد فى تعقيد المسألة وفى جهل المؤلفين المتأخرين به أن اسمه ورد فى أشكال مختلفة ، فهو الحسن بن أحمد الهمدانى ، وتدل النسبة على أنه من قبيلة همدان المعروفة فى جنوب الجزيرة العربية. وقد جرت النسبة إلى الخطط بينه وبين ابن الفقيه الهمدانى الذى مر ذكره والذى أخذ نسبته من مدينة همدان بإيران (١) ؛ وقد وقع ضحية هذا اللبس علماء كبار منذ منتصف القرن الماضى (٨٣). ومما ساعد على زيادة الغموض أنه كان يشار إليه أحيانا باسم جده ابن أبى الدمين ، كما لقب أيضا بابن الحائك الذى أطلقه عليه فيما يظهر خصومه. ولا يعرف عن تاريخ حياته سوى أنه ولد ونشأ بصنعاء وزار مكة وتوفى عام ٣٣٤ ه ـ ٩٤٥ بسجن صنعاء الذى كان سبب الزجّ به فيه كما تزعم الرواية قصيدة هزلية فى حق رسول الله ؛ ولكن الراجح أن يكون السبب فى ذلك دسائس أعدائه ضده.
وفى مصنفاته ترتسم أمام ناظرينا شخصية فذة لوطنى متحمس وعالم متعدد النواحى وشاعر. وقد مرت بنا الإشارة عرضا إلى معرفته الواسعة فى محيط الجغرافيا الفلكية ؛ وهو لم يكن جغرافيا فحسب بل وخبيرا كبيرا بأنساب العرب وتاريخ الجزيرة العربية نفسها ، خاصة آثارها القديمة (Archaeology) ، وهو أمر نادر بين العرب. ومما يدعو إلى الدهشة حقا أنه استطاع فك رموز الكتابة العربية القديمة فى جنوب الجزيرة (٨٤) ؛ ويقف مصنفه «الإكليل» الذى يقع فى عشرة أجزاء دليلا ساطعا على سعة معارفه ، فقد أفرغ فيه جماع معرفته بالأنساب والتاريخ والآثار بل وحتى بأدب الحميريين سكان جنوب الجزيرة فى القدم. ولم يكتف فى كتابه بعرض المادة الأسطورية التى تجمعت فى الأدب العربى بعد الإسلام بل بذل قصارى جهده ليقف منها موقف الناقد وذلك على ضوء دراسته المباشرة للنقوش التاريخية. وإلى عهد قريب لم يعرف من كتابه هذا سوى الجزئين الثامن والعاشر وذلك بفضل أبحاث مولرMüller الذى يرجع الفضل إليه فى التعريف بالهمدانى فى القرن التاسع عشر. وقد نشر وترجم الآن الجزء الثامن بفضل مجهودات العلماء العرب ببغداد وأمريكا (٨٥) ؛ أما الجزآن الأول والثانى فقد كشف عنهما منذ وقت
__________________
(*) همدان بتسكين الميم القبيلة وبفتحها المدينة. (المترجم)