إن التسلسل التاريخى لظهور المصنفات المختلفة لبعض أنماط الجغرافيا الوصفية لم يكن واضحا على الدوام حتى للعرب أنفسهم فى العهد المبكر. فصاحب كتاب «الفهرست» مثلا يذكر أن أول من صنّف فى «المسالك والممالك» هو الأديب أبو عباس جعفر بن أحمد المروزى (٦٤) ؛ وهذه الرواية يكررها ياقوت (٦٥) بالرغم من أن ذلك الشخص قد توفى بالأهواز حوالى عام ٢٧٤ ه ـ ٨٨٧ أى عندما كان ابن خرداذبه قد فرغ من المسودة الأولى بل وربما من الثانية لكتابه الذى يحمل نفس العنوان (٦٦). ولم يحفظ لنا التاريخ أية معلومات عن كتاب المروزى هذا أو عن مصنفات أخرى له ، ومن المؤكد أنها لم تكتسب صيتا ما أو ذيوعا رغما عن إشارة ابن النديم التى تحمل طابع الاستحسان والإشادة. وقد تنسب إليه حكايات من وقت لآخر عند الجغرافيين المتأخرين ، فابن الفقيه (٦٧) يروى عنه أسطورة تتعلق بحجر المطر (٦٨) كما ينقل عنه أيضا روايات عديدة عن القبائل التركية ؛ وهذه الروايات تسوق إلى الافتراض بأن آثار المروزى كانت تضم مادة قيمة بالنسبة لاتحادنا السوفيتى خاصة فيما يتعلق بجغرافيا آسيا الوسطى.
ويلى هذا من الناحية الزمنية فى تثبيت نمط «المسالك والممالك» تلميذ الفيلسوف الكندى وصديقه أحمد بن محمد بن الطيب السرخسى (توفى عام ٢٨٦ ه ـ ٨٩٩) (٦٩) وهو يمثل نوعا نادرا من الكتاب فى ميدان الأدب العربى وذلك بجمعه على السواء بين الاهتمام بالفلسفة والعلوم الدقيقة من جهة والأدب الفنى من جهة أخرى. ويمكن إرجاع اهتمامه بالأدب إلى اتصاله ببلاط الخليفة المعتضد الذى راح ضحية لسخطه عندما كان يشغل فى آخر سنى حياته وظيفة المحتسب ببغداد. وفى ميدان الأدب الجغرافى ينضم السرخسى من ناحية إلى المدرسة الرياضية الجغرافية ذات النزعة اليونانية وهذا بالطبع كان نتيجة لتأثير أستاذه عليه ، ومن ناحية أخرى نراه يهتم بالجغرافيا الوصفية من طراز «المسالك والممالك» ؛ فتوجد له فى المجال الأول رسالة «فى البحار والمياه والجبال» (٧٠) ترتبط ارتباطا وثيقا بمصنف مماثل لأستاذه مما جعل المسعودى يربط بينهما دائما عند وصفه للبحار ؛ ومن الجائز أنها نفس الرسالة التى يشار إليها أحيانا باسم «كتاب منفعة الجبال» (٧١). ويذكر المسعودى (٧٢) فى موضع آخر أن السرخسى إلى جانب ذلك «قد صنف ... كتابا حسنا فى المسالك والممالك والبحار والأنهار وأخبار البلدان وغيرها» ؛ وهو معروف أيضا باسم «كتاب المسالك والممالك» (٧٣). وينقل ياقوت منه كثيرا خاصة فيما يتعلق بعصر المعتضد (٧٤) الذى صحبه السرخسى فى بعض أسفاره.
ولو كانت جميع هذه المصنفات التى ذكرناها موجودة وفى متناول أيدى العلماء لاختلفت كثيرا لوحة التسلسل التاريخى لنشأة الأنماط المختلفة للجغرافيا الوصفية. ولكن ، وفى غير حاجة إلى دراسة القليل الذى حفظ لنا منها ، فإنه من الممكن أن نقرر على أساس ما أوردناه من حقائق أن الجغرافيا الوصفية بدأت تتخذ منذ النصف الثانى للقرن التاسع أنماطا ثابتة كما هو الحال مع الجغرافيا الرياضية التى سبقتها بقليل. وفيها انفسح المجال لا للفلكيين والرياضيين بل للغويين بصورة خاصة ، فهم الذين