وإنها لنموذج عال في الاستعلاء على عرض الحياة وزهرتها في أجمل صورة وأزهرها ، والتجرّد لله من كافة الجواذب المتخلفة ، والهواتف المضللة ، والمعوقات القوية ، ولتسمح لنفسها أن تطلبه هذا الطلب العظيم :
(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) : ف «ربّ» توحي باختصاصها بتربية خاصة إلهية تنجيها عن هذه الورطة المهلكة ، و «ابن لي» رفض لكل عامر ملائكي وسواه الى معمار الكون أن يبني لها بيتا بمشيئته دون وسائط ، و «عندك» لا تعني عندية مكانية فانه تعالى ليس له مكان ، إنما عندية المكانة أن يبني بيتها في أرفع مكان وأعلى مكانة في الجنة حيث مسكن الأنبياء!
ثم تطلب النجاة المثلث من : «فرعون» الجاهل «وعمله» الباطل و «من القوم الظالمين» الباطلين الجاهلين.
ومتى تطلب؟ هل بعد أن تأخذها الورطة الفرعونية الى حزبه؟ فكيف طلبت أولا أقرب الأقربين! كلا! إنما تطلب نجاتها بالنزوح عن هذا الجو الطائش الى جوار رحمة الله ، أن يقبضها الله إليه ، وقد كانت في اللحظات الأخيرة من حياتها تحت مختلف ألوان العذاب الفرعوني ، ومنها انه (وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها وأضجعها على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس ، فكانوا إذا تفرقوا عنها أظلّتها الملائكة ، فرفعت رأسها الى السماء فقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) ـ الى ـ (الظَّالِمِينَ) فكشف لها عن بيتها في الجنة فرأته (١).
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) :
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ٢٤٦ ـ أخرجه من عدة طرق عن عدة من الأصحاب والتابعين.