غض الأصوات عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دون أن يساوى في صوت ، أو أن يسوى بغيره في صوت ، فضلا أن يرفع فوق صوته صوت ، فلو حصل أي من ذلك استخفافا به صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان كفرا ، وخطاب الايمان هنا ينفيه! ولو كان إساءة أدب فمن أفسق الفسق ، والايمان قد ينفيه ، ولو كان لا شعوريا كعادة جاهلية دون تقصّد استخفاف أم إساءة وإيذاء ، كما قد تقصده ـ فقط ـ الآية ، فهو إحباط للأعمال (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) لا تشعرون خطأ الجهر ورفع الأصوات ، ولا عظمته ومداه ، ولا انه لحد الإحباط : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (٢٤ : ١٥) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٣٩ : ٤٧) : مثلث اللاشعور الرهيب ، أو مثنّاه لمن يشعر خطأه ولا يشعر مداه ولحد الإحباط ، فأما بعد هذا البيان الإشعار فهم شاعرون! إذا فالخبط أغوى والحبط أقوى على من يهبط من مكانة النبي الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقد يعني الحبط هنا ما يخص أعمال الخطاب ، أن لو لم تكن فيه إساءة أدب وإيذاء لكان صوابا وثوابا ، ولكنها حابطة بسوء الأدب ، أو يعني حبط الأعمال بين هكذا خطاب إلى المتاب ، حبطا فقط للثواب ، لا لأصل الصحة كالصوم والصلاة ، فإن الحبط في إساءة اللاشعور يختلف عن الاستخفاف الكفر المحبط لأصل الأعمال ، والإساءة الفسق التي تحبط منها قدرها ، فلكل إحباط قدره ، كما أن لكل صالحة ثواب قدرها.
ف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا .. وَلا تَجْهَرُوا) مخافة (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) هكذا (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) مساءة أعمالكم هذه ، ولا من جراءها : أن تحبط أعمالكم.
فيا له خطابا رهيبا جيبا ، يحذرهم هذا المزلق الذي ينتهي بهم الى حبوط أعمالهم وهم لا يشعرون ، ولقد ارتعشت قلوب بعض وارتجفت تحت هذه الوقعة