ولو رأيت شخصه لكنت عارفا به عيانا ، غير أنك لا تركب هذا الاسم الذي سمعته على الشخص الذي رأيته إلا بمعرفة أخرى بأن يقال لك : هذا زيد.
قوله : «ومثل قولهم : من كان أخاك؟ قول العرب : ما جاءت حاجتك».
اعلم أن الأصل في «جاء» أن يكون فعلا كسائر الأفعال متعديا وغير متعد ، كقولك : جاء زيد عمرا ، وجاء زيد إلى عمرو. إلا أنهم أجروها في هذا المثل مجرى صار ، وجعلوا الهاء اسما وخبرا هو الاسم كما كان ذلك في باب : كان وأخواتها ، فجعلوا اسمها مضمرا فيها ، وجعلوا «حاجتك» خبرها. وأنثوا «جاءت» لتأنيث معنى «ما».
فكأنه قال : أية حاجة جاءت حاجتك؟
وجعل «جاء» بمعنى «صار» ، ولم يسمع إلا بتأنيث «جاءت» وإنما أجروها مجرى «صار» لضرب من الشبه بينهما ، وذلك أنك تقول : صار زيد إلى عمرو ، كما تقول : جاء زيد إلى عمرو. ففي «جاء» من الانتقال ما في «صار» فحملوا «جاءت حاجتك» ـ في جعل الاسم والخبر ـ بمنزلة صار ـ إذا قلت : صار زيد منطلقا ـ لما بينهما من الاشتراك.
وإنما يقوله الرجل للرجل إذا أتاه في معنى : قوله ما جاء بك ويقال : إن أول ما شهرت هذه الكلمة من قول الخوارج لابن عباس حين أتاهم ليستدعي منهم الرجوع إلى الحق من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله : «كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم عسى الغوير أبؤسا».
يعني أنهم جعلوا لها اسما وخبرا ، كما جعلوا ل «كان» ولو قلت في الكلام : «عسى زيد أخاك» لم يجز ، فإنما جاز في «عسى» هنا لأنه مثل.
ويقال : إن الزباء الرومية هي التي قالت هذا لما أتاها قصير بصناديق فيها رجل طالبا لثأر جذيمة منها فأخذ في طريق الغار مريدا للإيقاع بها ، ولم يكن الطريق الذي يسلكه إليها ذلك الطريق ، فلما أحست بذلك قالت : عسى الغوير أبؤسا.
«وأبؤسا» جمع بأس. فكأنها قالت : صار الغوير أبؤسا ، إلا أن «عسى» فيها معنى الشك والتوقع ، و «صار» لليقين : فعسى ههنا ، وإن أجريت مجرى صار وكان ، ففيها معنى الشك.
والغوير تصغير الغار ، وفي الناس من يقول : المعنى عسى الغوير أن يكون أبؤسا ، ولا وجه لهذا الإضمار كله.
ثم ذكر سيبويه : «لدن غدوة» احتجاجا بأن الشيء قد يكون على لفظ في موضع ، ولا يطرد القياس في غيره ؛ لأنك لا تقول : لدن عشية ، ولا لدن زيدا ، وإنما نصبت العرب «غدوة» على ضرب من التأويل والتشبيه ، وذلك أنهم يقولون : «لد». فيحذفون النون و «لدن» فيثبتون النون. فشبهوا هذه النون بالنون الزائدة في : عشرين وضاربين ، فنصبوا ما بعدها كما ينصب