إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفترا عن الإحسان إلى الوالدين.
ومعنى (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أنه دعا ربه بذلك ، ومعناه : أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه ، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣].
وحاصل المعنى : أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما ، وهو معنى قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم لقوله : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير». وما شكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر ، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه.
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم حجة الوداع «إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحجّ عنه ، قال : نعم حجّي عنه» ، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه.
والأشدّ : حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد. وقيل مفرده : شدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنعم ، وليس الأشد اسما لعدد من سني العمر وإنما سنو العمر مظنة للأشدّ. ووقته ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على (بَلَغَ أَشُدَّهُ) قوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ، وتقدم في سورة يوسف ، وليس قوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) تأكيدا لقوله (بَلَغَ أَشُدَّهُ) لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضا يبعد ذلك الاحتمال.
و (أَوْزِعْنِي) : ألهمني. وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوزع ، أي الانكفاف عن عمل ما ، فالهمزة فيه للإزالة ، وتقدم في سورة النمل.