فكان حق (عَرَبِيٌ) أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم ، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد ، أو جمع. وحاصل معنى الآية : أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذّكر ، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماما لهداكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجميا لقلتم : هلا بينت لنا حتى نفهمه.
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)
هذا جواب تضمنه قوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت : ٤٣] ، أي ما يقال من الطعن في القرآن ، فجوابه : أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء ، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حرمهم كفرهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هديا وشفاء. وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم.
وحقيقة الشفاء : زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء ، يقال : شفيت نفسه ، إذا زال حرجه ، قال قيس بن زهير :
شفيت النفس من حمل بن بدر |
|
وسيفي من حذيفة قد شفاني |
ونظيره قولهم : شفي غليله ، وبرد غليله ، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات.
وجملة : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) إلخ معطوفة على جملة : (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه ، وهو ما تقدم في حكاية قولهم : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] ، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقا بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبرا عن القرآن. ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن ضمير الذكر ، أي القرآن ، فتكون من مقول القول وكذلك جملة (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).
والإخبار عنه ب (وَقْرٌ) و (عَمًى) تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه ، والوقر : داء فمقابلته بالشفاء من محسّن الطّباق.
وضمير (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يتبادر أنه عائد إلى الذّكر أو الكتاب كما عاد ضمير