وتكون (مِنْ) زائدة لتوكيد النفي ، ومجرورها مفعول في المعنى لتدعون ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد. ومعنى الكلام : أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودا ولكنكم تدعون أمورا عدمية ، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية. فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية. ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله ، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) في سورة البقرة [١١٣] ، و (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) في سورة المائدة [٦٨] ، وكقول النبي صلىاللهعليهوسلم لما سئل عن الكهان : إنهم ليسوا بشيء ، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب.
وحاصل المعنى : أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرب لها مثلا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلا بالعنكبوت الذي اتخذها ، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم.
ويجوز أن تكون (ما) استفهامية معلّقة فعل (يَعْلَمُ) عن العمل من باب قولهم: علمت هل زيد قائم ، أي علمت جوابه. و (مِنْ) بيانية لما في (ما) الاستفهامية من الإبهام ، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم. ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل «ما تدعون من دون الله» ، أي قد علم الله ذلك ، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتا ، وللمعبودات مثلا ببيت العنكبوت ، وأنتم لو سئلتم : ما تدعون من دون الله ، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابا ؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها ، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلا حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.
وجعل بعض المفسرين (يَعْلَمُ) هنا متعديا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى (يعرف) وجعل (ما) موصولة مفعول (يَدْعُونَ) والعائذ محذوفا ، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل (علم) وفعل (عرف) عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة ، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها.