بهيج الشكل مستوفيا كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه. ومن ذلك أن يكون مختوما ، وقد قيل : كرم الكتاب ختمه ، ليكون ما في ضمنه خاصا باطلاع من أرسل إليه وهو يطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء. قال ابن العربي : «الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [الواقعة : ٧٧] وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير ، والأثير ، والمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة».
وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محمودا عندها لأنها قالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [النمل : ٣٤].
ثم قصّت عليهم الكتاب حين قالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ) إلى آخره. فيحتمل أن يكون قد ترجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشورتها ، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية ، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوبا بالعربية القحطانية ، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته ، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك ، وقد كتب النبي صلىاللهعليهوسلم للملوك باللغة العربية.
أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشئ بها.
وقوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطبة أهل مشورتها لإيقاظ أفهامهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدّم في كتابه شيئا قبل اسم الله تعالى ، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضا.
والتأكيد ب (إنّ) في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتماما يؤدّى مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه.
وتكرير حرف (إن) بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذات الكتاب ، والمراد بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه ، كما تقول : إن فلانا لحسن الطلعة وإنه لزكيّ. وهذا من خصوصيات إعادة العامل بعد حرف العطف مع إغناء حرف العطف عن ذكر العامل ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا