عن مستحقّه ولو غاب وتأخّر ، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطّل ظهور الحقّ في نصابه وتخلّفه عن أربابه.
فعلم أنّ وراء هذا النّظام نظاما مدّخرا يتّصل فيه الحقّ بكل مستحقّ إن خيرا وإن شرا ، فلا يحسبنّ من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعدّ عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقّيها.
فلذلك أعقب الله و (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بآية (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) ، أي أن ساعة إنفاذ الحقّ آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذّبيك وإمهالهم كما قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [سورة يونس : ٤١]. والمقصود من هذا تسلية النبي صلىاللهعليهوسلم على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم.
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حريّة بالفصل وعدم العطف لأن حقّها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقلّ اهتماما بمضمونها ، ولأنها تسلية للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ على ما يلقاه من قومه ، وليصحّ تفريع أمره بالصّفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر.
وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقّق بها مراد الله من بقاء هذا الدّين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إيّاه وحمله إلى الأمم.
والمرد بالساعة ساعة البعث وذلك الذي افتتحت به السورة. وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في سورة الأحقاف [٣].
وتفريع (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) على قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) باعتبار المعنى الكنائي له ، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيّه صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقّيهم للدّعوة.
و (الصَّفْحَ) : العفو. وقد تقدم في قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) في سورة العقود [١٣]. وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدّين وحذف متعلق الصّفح لظهوره ، أي عمن كذّبك وآذاك.