وفي قوله : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) محسن الاحتباك. وتقدير الكلام : بدلوا نعمة الله وشكرها كفرا بها ونقمة منه ، كما دل عليه قوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) إلخ.
واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر ، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات.
والذين بدلوا هذا التبديل فريق معرفون ، بقرينة قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) ، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان ، أي كلمة الشرك ، وهم الذين استكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذّبوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، وشرّدوا من استطاعوا ، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار ، فإسناد فعل (أَحَلُّوا) إليهم على طريقة المجاز العقلي.
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوّأهم حرمه ، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم ، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان ، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم وعبدوا الحجارة. ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه ـ صلّى الله عليهم جميعا ـ وهداهم إلى الحق ، وهيّأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة ، فبدّلوا شكر ذلك بالكفر به ، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ودعوة إبراهيم وبنيّته ـ عليهمالسلام ـ.
وقومهم : هم الذين اتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارا ، فهم أحق بأن يضافوا إليهم.
والبوار : الهلاك والخسران. وداره : محله الذي وقع فيه.
والإحلال بها الإنزال فيها ، والمراد بالإحلال التسبب فيه ، أي كانوا سببا لحلول قومهم بدار البوار ، وهي جهنم في الآخرة ، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل : موقع بدر ، فيجوز أن يكون (دارَ الْبَوارِ) جهنم ، وبه فسر علي وابن عبّاس وكثير من العلماء ، ويجوز أن تكون أرض بدر وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.
واستعمال صيغة المضي في (أَحَلُّوا) لقصد التحقيق لأن الإحلال متأخر زمنه فإن السورة مكية.
والمراد ب (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) صناديد المشركين من قريش ، فعلى تفسير (دارَ الْبَوارِ) بدار البوار في الآخرة يكون قوله (جَهَنَّمَ) بدلا من (دارَ الْبَوارِ) وجملة (يَصْلَوْنَها) حالا من (جَهَنَّمَ) ، فتخص (دارَ الْبَوارِ) بأعظم أفرادها وهو النار ، ويجعل ذلك من ذكر بعض الأفراد لأهميته.