فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عهد الحديبية : أن لا يصدّ أحد عن البيت إذا جاء ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام ، وقد كان معظم قبائل العرب داخلا في عقد قريش الواقع في الحديبية ؛ لأنّ قريشا كانوا يومئذ زعماء جميع العرب ، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ : أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه ، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية. وهذا العهد ، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين ، فقد كان عديله لازما لفائدة المشركين على المسلمين ، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة ، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحلافهم.
وكان بين المسلمين وبعض قبائل المشركين عهود ؛ كما أشارت إليه سورة النساء [٩٠] في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الآية ، وكما أشارت إليه هذه السورة [٤] في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) الآية.
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن ، وبعضها كان لأجل قد انقضى ، وبعضها لم ينقض أجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجّلا إلى عشر سنين في بعض الأقوال وقيل : إلى أربع سنين ، وقيل : إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال ، ولم تنقض على بعضها ، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار ، وكان بعض تلك العهود مؤجلا إلى أجل لم يتمّ ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير المعاهدين ، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين ، فقد ذكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غلبوا فنقض كثير من المشركين العهد ، وممّن نقض العهد بعض خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة أو جذيمة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) [التوبة : ٤] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حذرهم ، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك ، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعد : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) [التوبة : ٣].
وإنّما جعلت البراءة شأنا من شئون الله ورسوله ، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين : للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلىاللهعليهوسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه