السجدة ، والحديد ، وفصّلت. فظهر لي أنّ لهذا الفعل خصوصيّة في كلام العرب كان بسببها أجدر بالدّلالة على المعنى المراد تبليغه مجملا ممّا يليق بصفات الله ويقرّب إلى الأفهام من معنى عظمته ، ولذلك اختير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسّره بها المفسّرون.
فالاستواء يعبّر عن شأن عظيم من شئون عظمة الخالق تعالى ، اختير التّعبير به على طريق الاستعارة والتّمثيل : لأنّ معناه أقرب معاني المواد العربيّة إلى المعنى المعبّر عنه من شئونه تعالى ، فإنّ الله لمّا أراد تعليم معان من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللّغة إلّا بأمثلة معلومة من عالم الشّهادة ، فلم يكن بد من التّعبير عن المعاني المغيّبة بعبارات تقرّبها ممّا يعبر به عن عالم الشّهادة ، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التّمثيليّة والتّخييليّة في مثل هذا.
وقد كان السّلف يتلقّون أمثالها بلا بحث ولا سؤال لأنّهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملا ، ويسمّون أمثالها بالمتشابهات ، ثمّ لمّا ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون : استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفا ، وقد بيّنت أنّ مثل هذا من القسم الثّاني من المتشابه عند قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) في سورة آل عمران [٧] ، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في «المدارك» عن سفيان بن عيينة أنّه قال : سأل رجل مالكا فقال : الرّحمن على العرش استوى. كيف استوى يا أبا عبد الله ؛ فسكت مالك مليّا حتّى علاه الرّحضاء ثمّ سرّي عنه ، فقال : «الاستواء معلوم والكيف غير معقول والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب وإنّي لأظنّك ضالا» واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة ، وفي بعضها أنّه قال لمن سأله : «وأظنّك رجل سوء أخرجوه عنّي» وأنّه قال : «والسؤال عنه بدعة». وعن سفيان الثّوري أنّه سئل عنها : «فقال : فعل الله فعلا في العرش سمّاه استواء». قد تأوّله المتأخّرون من الأشاعرة تأويلات ، أحسنها : ما جنح إليه إمام الحرمين أنّ المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف على ، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قول الأخطل :
قد استوى بشر على العراق |
|
بغير سيف ودم مهراق |
وأراه بعيدا ، لأنّ العرش ما هو إلّا من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه ، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية ، وقد قال أهل اللّغة : إنّ معانيه تختلف باختلاف تعديته بعلى أو بإلى ، قال البخاري ، عن مجاهد : استوى علا على