العامل أن تكون الأحوال فيه سجالا ومداولة ، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية ، فقال : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ). والله قادر على نصرهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلّا يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين ، فيحسب أنّ النّصر حليفهم. ومعنى خلت مضت وانقرضت. كقوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : ١٣٧].
والسنن جمع سنة ـ وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرء صدور العمل على مثالها قال لبيد :
من معشر سنّت لهم آباؤهم |
|
ولكلّ قوم سنّة وإمامها |
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي :
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها |
|
فأوّل راض سنّة من يسيرها |
وقد تردّد اعتبار أئمّة اللّغة إيّاها جامدا غير مشتقّ ، أو اسم مصدر سنّ ، إذ لم يرد في كلام العرب السّنّ بمعنى وضع السنّة ، وفي «الكشاف» في قوله : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) في سورة الأحزاب [٣٨] : سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تربا وجندلا ، ولعلّ مراده أنّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تربا وجندلا مقام تبّا وسحقا في النصب على المفعولية المطلقة ، الّتي هي من شأن المصادر ، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حصب بتراب ورجم بجندل. ويظهر أنّه مختار صاحب «القاموس» لأنّه لم يذكر في مادّة سنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر ، ولا أتى بها عقب فعل سنّ ، ولا ذكر مصدرا لفعل سنّ. وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة ، وهو اشتقاق نادر. والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين : أنّ السنّة اسم مصدر سنّ ولم يذكروا لفعل سنّ مصدرا قياسيا. وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيرا : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) [فاطر : ٤٣] وفسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية.
والمعنى : قد مضت من قبلكم أحوال للأمم ، جارية على طريقة واحدة ، هى عادة الله في الخلق ، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتوهم على الضعفاء أمر زائل ، والعاقبة للمتّقين المحقّين ، ولذلك قال : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي المكذّبين برسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم ، أو السؤال عن أسباب هلاكهم ، وكيف كانوا أولي قوة ، وكيف طغوا على المستضعفين ، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدة عيان ، فإنّ للعيان