[التوبة : ٢٩] كما نسخ حديث «أمرت أن أقاتل الناس» ، هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم.
ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] ، فإنّ النبيصلىاللهعليهوسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلّا به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص. والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلىاللهعليهوسلم العرب على الإسلام ، يعارضه أنّه عليهالسلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص. القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلّا من أهل الكتاب والمجوس. قال ابن العربي في الأحكام «وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس يحمل الآية عليه» ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مقلاتا ـ أي لا يعيش لها ولد ـ (١) تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).
وقال السدي : نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حصين من بني سلمة بن عوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعوهما إلى النصرانية ، فتنصّرا وخرجا معهم ، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلىاللهعليهوسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال. وقيل : إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرها فرارا من السيف ، على معنى قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [النساء : ٩٤]. وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر.
وقيل : إنّ المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإنّ نفي الإكراه نهي ،
__________________
(١) المقلات ـ بكسر الميم ـ مشتقة من القلت بالتحريك وهو الهلاك ، وعليه فالتاء فيه أصلية وليست هاء تأنيث ، ووقع في كلام ابن عباس تكون المرأة مقلى ، رواه الطبري فيكون مقلاة مفعلة من قلى إذا أبغض.