وقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد «من الصبح» لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في «الكشاف» تشبيها بليغا ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلّا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.
وقد جيء في الغاية بحتى وبالتّبيّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلّا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا) ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.
و (إِلَى اللَّيْلِ) غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى. بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف (ثم) للجمل.
هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : «لما نزلت (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله : إن وسادك لعريض ، وفي رواية : إنك لعريض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».