عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)).
بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالا فإنّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هدى ، وقول الكافرين (ما ذا أَرادَ اللهُ) إلخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جوابا للاستفهام في قول الذين كفروا (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) لأن ذلك ليس استفهاما حقيقيا كما تقدم. ويجوز أن يجعل جوابا عن استفهامهم تخريجا للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جوابا لهم وردا عليهم وبيانا لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفا من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي. وكون كلا الفريقين من المضلّل والمهدى كثيرا في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصّ في الاهتداء.
والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها |
|
إذا طار قشر التمر عنها بطائر |
قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤية يصف إبلا :
فواسقا عن قصدها جوائرا |
|
يهوين في نجد وغور غائرا |
والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غير الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين.