وتدبيرهم لتركيب الشجر ، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر ، فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة ، ومنهم ابن بصال صاحب «كتاب الفلاحة» الذي شهدت له التجربة بفضله ، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النّصب (١) في تحسين الصنائع ، أحذق الناس بالفروسية ، وأبصرهم بالطعن والضرب.
وعدّ ، رحمه الله تعالى ، من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم ، قال : وكان خطّهم أولا مشرقيّا ، انتهى.
قال ابن سعيد : أمّا أصول الخطّ المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلّم له ، لكن خطّ الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق ، ورونق آخذ بالعقل ، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد ، انتهى.
ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكور في رسالة لابن حزم ، وقال فيها : إنّ أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية ، وإحكام المهن الصورية ، تركيّون في معاناة الحروب ، ومعالجات آلاتها (٢) ، والنظر في مهماتها ، انتهى.
وعدّ ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشّحات التي قد استحسنها (٣) أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها ، وأمّا نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علوّ طبقاتهم.
ثم قال ابن غالب : ولمّا نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة (٤) تفرّقوا ببلاد المغرب الأقصى من برّ العذرة مع بلاد إفريقية ، فأمّا أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه ، وداخلوا أهلها ، وشاركوهم فيها ، فاستنبطوا المياه (٥) ، وغرسوا الأشجار ، وأحدثوا الأرحيّ (٦) الطاحنة بالماء وغير ذلك ، وعلّموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها ، فشرفت بلادهم ، وصلحت أمورهم ، وكثرت مستغلّاتهم ، وعمّتهم الخيرات ، فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأنّ اليونانيين سكنوا الأندلس فورثوا عنهم ذلك ، وأمّا أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها ، فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتّاب والعمّال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة ، ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي ، وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد ، وقطعوا معاشهم ، وأخملوا
__________________
(١) النصب : التعب.
(٢) في ب : «ومعالجة آلالتها».
(٣) سقطت «قد» من بعض النسخ.
(٤) المبيرة : المهلكة.
(٥) استنبطوا المياه : استخرجوها.
(٦) الأرحي : جمع رحى ، وهي الطاحون.