لصاعد هذا الفأل الغريب إلّا لحسن نيّته وسريرته ، وصفاء باطنه ، فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان ، ورجّحه على أعدائه ، وحقّ له ذلك.
وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب «الأزهار المنثورة ، في الأخبار المأثورة» حكي أنّ صاعدا قال : جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر ، فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصا كالمرقعة ، وبكرت به معي إلى قصر المنصور ، فاحتلت في تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت : يا مولانا لعبدك حاجة ، فقال : أذكرها ، قلت : وصول غلامي كافور إلى هنا ، فقال : وعلى هذه الحال؟ فقلت : لا أقنع بسواه إلّا بحضوره بين يديك ، فقال : أدخلوه ، فمثل قائما بين يديه في مرقعته وهو كالنخلة إشرافا ، فقال : قد حضر ، وإنه لباذل (١) الهيئة ، فمالك أضعته؟ فقلت : يا مولانا ، هنالك الفائدة ، اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالا ، فتهلّل (٢) وقال : لله درّك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر! وأمر لي بمال واسع وكسوة ، وكسا كافورا أحسن كسوة ، انتهى.
ولمّا دخل صاعد دانية ، وحضر مجلس الموفق مجاهد (٣) العامري أمير البلد ، كان في المجلس أديب يقال له بشار ، فقال للموفّق : دعني أعبث بصاعد ، فقال له : لا تتعرّض إليه ، فإنه سريع الجواب ، فأبى إلّا مساءلته ، وكان بشار المذكور أعمى ، فقال لصاعد : يا أبا العلاء ، ما الجرنفل في كلام العرب؟ فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة ، وليس لها أصل في اللغة ، فقال بعد أن أطرق ساعة : الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهنّ إلى غيرهنّ ، وهو في ذلك كلّه يصرح ولا يكني ، فخجل بشار وانكسر ، وضحك من كان حاضرا ، فقال له الموفّق : قلت لك لا تفعل فلم تقبل ، انتهى.
والجرنفل. بضمّ الجيم والراء ، وسكون النون ، وضمّ الفاء ، وبعدها لام.
ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدّم ، وله مع المنصور بن أبي عامر ، رحمه الله تعالى ، من ذلك كثير ، وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب.
ومن حكاياته (٤) أنه خرج معه يوما إلى رياض الزاهرة ، فمدّ المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالتّرنجان ، فعبث به ورماه إلى صاعد ، وأشار إليه أن يقول فيه ، فارتجل: [بحر البسيط]
لم أدر قبل ترنجان عبثت به
__________________
(١) في ب : «وإنه لباذ».
(٢) تهلل : أشرق وجهه واستبشر.
(٣) في ابن خلكان تحقيق محيي الدين عبد الحميد ٢ / ١٨١ «مجاهد بن عبد الله».
(٤) الذخيرة ٤ / ١ : ١٢.