إن ما نعنيه هو أن أية نهضة نريدها للأمة المسلمة ، لا يمكن أن تتحقق من خلال تراث غير تراثها ، فلا بد أن تنتظم الأمة في داخل تراثها الخاص ، ومن ثم تسعى لإغناء مسيرتها ، باستيعاب ما هو إنجاز إنساني عام ، من معطيات العلوم والمكتشفات الطبيعية للأمم الأخرى ، لأن العلم إرث إنساني عام لا يخص أمة دون أخرى ، ولا يملكه مجتمع ملكية خاصة ، فالعلم لا يرتبط بشعب معين ، ولا يعبر عن مرحلة تاريخية خاصة ، ولعل مراجعة سريعة لتاريخ العلم ، ترينا كيف أن البشرية بمجموعها كان لكل شعب فيها مساهماته الكبيرة في تطوير حركة العلوم والاكتشافات.
تأسيسا على ما سبق يتضح أن أية نهضة لا تتحقق إلا باحتضان الأمة لتراثها واكتشافها لذاتها ، ومحاولة التواصل مع الآخر ، واستيعاب ما هو إنجاز بشري عام ، لم تأطر بإطار قومي أو إقليمي خاص.
أما كيف يتاح للأمة أن تكتشف ذاتها وتحتضن تراثها؟ فإن ذلك لن يتم إلا بأن تتعامل الأمة بشكل مباشر مع تراثها ، عبر إحياء هذا التراث ، ونفض الغبار الذي تراكم عليه سنوات مديدة ، ولا بد أن تتجنب أية محاولة للعبور إلى التراث بواسطة أطراف وأدوات أخرى غريبة عنه ، كما ربما يحاول البعض من المنبهرين بالغرب ، بتعاطي مقولات ونظريات التراث في ضوء أدوات غريبة عنه.
لقد تخلت أوروبا منذ عصر النهضة عن التعامل مع أرسطو من خلال ابن رشد ، وانفتحت على تراثها اليوناني القديم مباشرة ، وسعت سعيا حثيثا لاكتشاف الأصول اليونانية لكل ما لم يصلها مباشرة من التراث اليوناني ، أي ما وصلها بواسطة المسلمين ، وتلقت هذا التراث من دون وسيط ، وتخلت عن ابن رشد وغيره من المفكرين المسلمين كوسطاء في تلقي تراثها.
إن علامة ابن رشد الأمة ، وتوازن حركتها التاريخية ، هو قدرتها على قراءة تراثها ، واكتشافه ، واستنطاقه ، واستلهام منابع القوة والفعالية فيه ، بشكل مباشر