(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ). من أنت أيها الإنسان الضعيف حتى تستنكف عن طاعة الله ، وتتطاول على عباده؟ فكّر في أصلك ، وفي انتقالك من خلق الى خلق ، وفي مصيرك ومآلك ... فمن الذي أوجدك ولم تك شيئا ، وأنشأك في بطن أمك حالا بعد حال ، ثم أخرجك في أحسن تقويم .. هل الصدفة فعلت هذا كله؟ (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ). مهد للإنسان الطريق الى الخير بشيئين : الأول الإرشاد اليه والترغيب فيه. الثاني العقل والقدرة على العمل. وأيضا مهد له الطريق الى الحياة بشيئين : الأول ما أودعه تعالى في الطبيعة من الخيرات الكافية بحاجاته. الثاني ما أودعه في الإنسان من الطاقة والاستعداد لاستغلال الطبيعة وتكييفها كما يشاء. وتقدم مثله في العديد من الآيات. انظر تفسير الآية الأولى وما بعدها من سورة الإنسان.
(ثُمَّ أَماتَهُ) بعد انقضاء أجله (فَأَقْبَرَهُ) أمر سبحانه بدفن الإنسان بعد موته ، ونهى عن تركه مطروحا للوحوش والطيور اشارة الى كرامته عند الله حتى بعد خروج الروح منه فكيف إذا كان حيا؟ (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ). خلقه ثم أماته فأقبره ، ثم يبعثه كما كان للحساب والجزاء .. ولو لا هذا البعث لكان وجود الإنسان عبثا في عبث. انظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس فقرة «الحساب والجزاء حتم». أما قوله تعالى : (إِذا شاءَ) فيشير الى انه هو وحده يعلم متى يكون الحشر والنشر (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ). الضمير في يقضي يعود الى الإنسان المجرم المهمل ، والمعنى لقد زودنا الإنسان بجميع الطاقات والمعدات لفعل الخير وصالح الأعمال ، وما تركنا له من عذر يتعلل به ، ومع ذلك أهمل وقصر أكثر الناس ، بل ان الكثير منهم طغوا وبغوا واتخذوا من نعم الله عليهم وسيلة للفساد والاعتداء على العباد.
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) وهو بين يديه ، وفيه قوام حياته ووجوده ، فلينظر اليه ، ويسأل عقله : من الذي يسر له هذا الطعام؟ الطبيعة؟ ومن الذي أوجد الطبيعة؟ الصدفة؟ وهل للصدفة عقل يقدر ويدبر؟ فأوجدت الطبيعة بما فيها من أسباب الطعام والشراب وما الى ذلك من الدقة واحكام الصنع (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا). كلا .. الله وحده هو الذي أوجد الماء وأنزله من السماء ، وسبق أكثر من مرة ان الظواهر الكونية تسند اليه تعالى لأنه مصدر الوجود وسبب الأسباب