(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا). وقد أشرنا أكثر من مرة الى ان آيات القرآن يفسر بعضها بعضا لأن مصدرها واحد ، وإذا لا حظنا جميع الآيات الواردة بعيسى ومريم (ع) ، إذا لاحظناها على هذا المبدأ فهمنا من مجموعها ان المراد من النفخ الخلق والإلقاء ، وان المراد من الروح عيسى بالذات. والآية ١٧١ من سورة النساء تشعر بذلك ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). وكلمته هي «كن» التي يخلق بها الأشياء ، ومعنى القائها الى مريم ان مريم أو بطنها هي مكان المخلوق. أنظر ج ٢ ص ٥٠٠. ومهما يكن فإن مريم لما أحست بالحمل ابتعدت عن أهلها حياء وتحرجا.
(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ). المخاض الطلق ومقدمات الولادة ، وأجاءها بمعنى جاء بها ، والأصل جاء ، ثم دخلت همزة التعدية فصارت أجاءها مثل أجلسه وأنامه. قال الرازي : «أجاء منقول من جاء إلا ان استعماله تغير الى معنى الإلجاء» وعليه يكون المعنى ان المخاض ألجأها الى جذع النخلة لتستند اليه طلبا لتيسير الولادة (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا). هذه الكلمة وأمثالها ينطق بها كل انسان عند الأزمات واشتداد الأمر عليه ، ينفس بها عن همه وكربه ، وما على قائلها من غضاضة ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه.
(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). المراد بالسري جدول الماء .. وأول ما يتبادر الى الأذهان من سياق الكلام ان المنادي هو عيسى (ع) وليس جبريل ، كما زعم كثير من المفسرين ، وهذا النداء من معجزات عيسى ، تماما كولادته وإحيائه الموتى ، قال عيسى في ندائه لأمه (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا). قيل : لم يكن الفصل فصل الرطب ، وان حمل النخلة له كان من باب المعجزة ، وليس هذا ببعيد لأن اللفظ يشعر به ، وان الوضع الذي كانت فيه مريم معجزات في معجزات.
(فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من الجدول (وَقَرِّي عَيْناً) طيبي نفسا بمولودك المبارك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) وسألك عن المولود (فَقُولِي) بالإيماء والاشارة : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) بالسكوت ، وقد كان صوم