وجادل النبي أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، وأورد عليهم أنواع الدلائل ، ولم يدع لهم منفذا ، ولكنهم أصروا على الكفر ، ثم دعاهم الى المباهلة ، ولكنهم فضلوا أداء الجزية بصغار على الاعتراف بالحق .. ورغم هذا كله فقد ظل حريصا على أن يؤمنوا ، وهذا شأنه مع كل جاحد ، حتى خاطبه الله تعالى في الآية ١٠٣ من سورة يوسف : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وفي الآية ٣٧ من سورة النحل : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ).
وتأكيدا للحجة على المعاندين ، وإظهارا لحقيقتهم لدى النبي ، والناس أجمعين قال تعالى : يا محمد دع جدالهم ومباهلتهم ، واسلك معهم هذا المنهج الذي يشهد كل ذي لب انه العدل والحق .. بل انه البديهة والضمير والوجدان ، وذلك أن تدعوهم الى ما أقره العقل والكتب السماوية بكاملها ، وهو أن تستووا جميعا في عبادة الله وحده لا شريك له .. لا يعبد بعضكم بعضا ، ولا يعلو بعضكم على بعض ، وهذه هي كلمة سواء.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). أي فإن لم يقبلوا ، حتى هذه البديهة ، وأبوا الا الشرك والعناد فأعرض عنهم ، وقل لهم أنت ومن آمن بك : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). وفي إشهاد الكافرين على اسلام المسلمين فائدتان : الأولى : اشعار الكافرين بعدم المبالاة بهم وبكفرهم ، وان محمدا ومن معه يؤمنون بالحق ، وبه يعملون ، حتى ولو كفر أهل الشرق والغرب.
الفائدة الثانية : الاشارة إلى أن المسلمين يتميزون عن غيرهم بعبادة الله الواحد الأحد ، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، ولا لأحد منهم كائنا من كان سلطة التحليل والتحريم ، وغفران الذنوب ، كما هي الحال عند غيرهم.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). جادل القرآن أهل الكتاب بالعقل والمنطق ، ثم دعاهم إلى المباهلة ، ثم إلى كلمة سواء ، وهي الإيمان بالله وحده ، ثم استأنف القرآن جدال أهل الكتاب من جديد ، وعاد الى ما كان عليه أولا ، كعادته من التعرض للشيء ، ثم الانتقال إلى غيره ، ثم الرجوع اليه .. عاد الى أهل الكتاب ، وذكر بعض أقوالهم وأبطلها ، ذكر قول اليهود : ان ابراهيم كان يهوديا ،