عن القدماء وأهل الجاهلية من كل جيل ما يستدل به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكل لسان. فمن ذلك ما قاله صاحب كليلة ودمنة : الدنيا كالماء الملح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا. وقال : لا يخفى فضل ذو العلم وإن أخفاه كالمسك يخبا ويستر ، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح. وقال : الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكرا ، كالنهار يزيد البصير بصرا ويزيد الخفاش سوء بصر» (١).
ومن مقاصد التشبيه إفادة المبالغة ، ولهذا قلّما خلا تشبيه مصيب عن هذا القصد. ولكن ينبغي ألّا يؤدي الإغراق في المبالغة إلى البعد بين المشبه والمشبه به أو إلى عدم الملاءمة بينهما ، وإلّا ارتدّ التشبيه قبيحا.
ويعبّر عبد القاهر الجرجاني عن مدى أثر التشبيه في التعبير عن المعاني المختلفة بقوله (٢) : «فإن كان ـ التشبيه ـ مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم ، وأهزّ للعطف وأسرع للإلف ، وأجلب للفرح وأغلب على الممتدح ... ، وأسير على الألسن وأذكر ، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
وإن كان ذمّا كان مسه أوجع وميسمه (٣) ألذع ، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ. وإن كان حجاجا كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر. وإن كان افتخارا كان شأوه (٤) أبعد ، وشرفه أجدّ ولسانه ألدّ. وإن كان اعتذارا
__________________
(١) كتاب الصناعتين ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.
(٢) أسرار البلاغة ص ٩٣ ـ ٩٦.
(٣) الميسم بكسر الميم : الآلة التي يكوى بها ويعلم.
(٤) الشأو : الأمد والغاية ، وشرفه أجد : أعظم ، والألد : الشديد الخصومة.