الكوفة بروز ظاهرة جديدة هي تفوّق الأمصار على الجزيرة في تحديد مصير العرب السياسي : ظلت الكوفة طيلة أربع سنوات مركز القرار ومقرّ الخلافة ، إن لم تكن عاصمة الإمبراطورية الإسلامية ، ذلك لأن الإمبراطورية كانت منقسمة على حالها. ومن هذه الفترة المتميزة من وجودها ، استمدت الكوفة مطامحها المستقبلية ، لكنها استمدت منها أيضا إخلاصها لعلي وآل بيته ، وهو إخلاص لم يتراخ قط. غير أن هذا الوفاء لم يحظ منذ أن بدأ ، بإجماع تام. فقد كان الأشراف أو زعماء القبائل ، الذين شاركوا بعامة في القادسية ، وأدرجت أسماؤهم في قوائم «شرف العطاء» ، فاتري الحماس لقضية علي. كذلك ، كان الفتور يشوب موقف العامة التي تبعتهم ، من سكان المدينة. كان هناك أيضا النشطاء الذين كانوا يسمّون «القرّاء» ، وكان معظمهم قد ربط مصيره بمصير عليّ الذي أغدق عليهم فضائله ونعمه. لكن أقلية منهم بقيت متحفظة تجاه علي ، على الرغم من أنها كانت أكثر تشددا من الآخرين في تأييده ، وما لبثت أن ناصبته العداء. بعد التحكيم لم يعد عليّ قادرا على الاتكال ، بالمعنى السياسي للكلمة ، على أنصاره ، أي شيعته. فالتحق الجناح الأكثر تشددا من القرّاء بالخوارج ، في حين أن جماعة الأشراف المحافظين تخلوا عن علي. فتبعثرت أطراف التحالف الذي كان قد أنشأه. وفي هذا ما يفسر العجز الذي أصاب الشيعة طيلة قرن ظلوا فيه ، على الدوام ، أقلية. والحق ، أن بني أمية كانوا يحكمون بدعم من الأشراف الذين كانوا ، رغم ذلك ، لا يحبونهم ، وإنما يرون فيهم قاعدة نظام ، كما كانوا راضين بنفوذهم الاجتماعي المتعاظم الذي يحميه النظام الأموي. وهذا ما يفسّر وقوفهم الدائم إلى جانب سلطة النظام ، في كل مرة ينفجر فيها تمرّد شيعي ، فيقدمون يد العون والمساعدة لهذا النظام من أجل إحباط ذلك التمرد. في العام ٦١ ه٦٨٠ / م ذهب الأشراف حتى إلى المشاركة في قتل الحسين ، كما أنهم أسهموا في قمع ثورة المختار التي هددت امتيازاتهم ، وتعاونوا مع الوالي لقمع حركة زيد بن علي. وحدها الثورة الكبرى ، العام ٨٢ ـ ٨٣ ه ، كانت ثورة عراقية خالصة ضد هيمنة «أهل الشام» وضد استبداد الحجّاج ، الوالي. فقد كان رأس هذه الثورة أشراف وقرّاء معا. لكنها أسفرت عن نزع سلاح المصر وبناء مدينة واسط واستدعاء الجيش السوري إلى العراق ، كما لو أنه أرض محتلة.
إذا كان معظم الأشراف قد وقفوا طيلة القرن الأول ضد الحركات الشيعية ، فإن بعضهم انضم إليها وأسهم فيها بنشاط ، كما المختار نفسه ، وإبراهيم بن الأشتر ، وعبد الرحمن بن شريح الشبامي. بعد المختار ، كانت العناصر الشعبية