بطابع المدينة الهائجة الطموحة ، وتحولت في الوعي الشيعي اللاحق إلى مدينة شهيدة. من هنا الأفكار الجاهزة الجامدة التي كانت لدى الأغلبية السنّية ، والأفكار الأبوكاليبتية لدى الجهة المقابلة التي كانت ترى أن بغداد اللعينة ستتحول إلى كتلة من الدمار لتصبح الكوفة ملكة العالم بعد أن كانت دار منفى للمؤمنين الصادقين ، بحسب قولة سلمان : «الكوفة قبّة الإسلام سيأتي يوم سيقطنها كلّ مؤمن حقيقي أو أن قلبه يحنّ إليها» (راجع : ماسينيون ، III,Opera Minora ، ص ٥٤).
والحق ، أن هذا الغليان السياسي المستمر طيلة القرن الأول ه / السابع م ، مبعثه بنية الكوفة بالذات فضلا عن تطوّر أحداث التاريخ. بقيت الكوفة الركن الأساس في نظام الأمصار حتى العام ٣٠ ه٦٥٠ / م ، على أقلّ تقدير ، وهو العام الذي بدأت فيه البصرة تتقدّم على الكوفة في فتح الشرق الفارسي. واستمرت الكوفة في احتضان فاتحي العراق منذ الموجة الأولى المعروفة باسم «أهل الأيام» وحتى موجة «أهل القادسية». وكان أهل الموجة الأولى يفاخرون بأسبقيتهم في اعتناق الإسلام وغيرتهم عليه ، في حين أن أهل الموجة الثانية شاركوا في الردّة ، وكانوا كذلك ذوي حسب عربي رفيع. كانت الكوفة تستأثر بالقسم الأعظم من موارد السواد ، وكان قادة الجيش يديرون شؤون الأراضي الملكية القديمة الواسعة ، والتي غدت في ما بعد ، موضع نزاعات وصراع ، في حين أن الهجرة إلى البصرة ـ باستثناء هجرة بكر ـ غدت هجرات متأخرة قامت بها قبائل جنوب شرق الجزيرة ، والوافدون الجدد الذين وصلوا إلى ساحات الفتح ، في مجموعات قبلية متجانسة. كانت البذور التي أنبتت التوتر والصراع مطمورة في بنية الكوفة القبلية ، وفي الظروف التي واكبت نشأتها ، وكذلك في التجاذب الذي وقع على المهاجرين الجدد ، أو الروادف ، من أجل استمالتهم ، كما في العجز عن فرض الرقابة على الهجرة بسبب كثافتها في العصر الأول. لقد كان التوازن محفوظا في عهد عمر ، وكانت جيوش الكوفة منهمكة بإخضاع فارس. ولم تبدأ الصراعات الداخلية بالبروز إلى العلن ، إلا في عهد عثمان : فالنخبة الإسلامية القديمة التي أحياها عمر ، تراجعت أمام الزعامات التقليدية التي تقاسمت الأعمال (الولايات) وشعرت بتزايد قوتها وعلوّ كعبها ، بفضل موجات هجرة الروادف التي حملت إليها أهلها وقبائلها (وينطبق ذلك أفضل انطباق على حالة الصراع التي كانت قائمة بين الأشتر النخعي والأشعث بن قيس). فانتهى المطاف بحماسة «أهل الأيام» الذين خذلتهم السياسة الجديدة ، إلى مقتل عثمان الذي تورّط فيه بعضهم ، ليجدوا أنفسهم مرغمين على الوقوف إلى جانب علي. وكان في مجيء علي إلى