وهذه ظاهرة مهمة جديرة بالعناية. لقد برزت هذه المدن من الداخل. وهي ترجمة عن عالم بلاد العرب الداخلي. وذلك خلافا لمدن العرب الأوائل في الخارج ، وللمدينة الحدودية الخاضعة للأجنبي مثل الحيرة ، وخلافا أيضا لمدن اليمن القديمة ـ شبوة وتمنع ومأرب وظفار وحتى نجران (١) ـ التي تلقحت بلقاح حضارة أخرى مغايرة تماما ، والتي عرفت كيف تسمو بتميزها تجاه العرب البدو. لكن يحتمل أن وضع صنعاء لم يكن على ذلك النحو ، وهي مدينة أخرى جديدة في اليمن الذي تم تعريبه منذئذ أو كان بصدد التعريب العميق ، مدينة تأكد دورها بقدوم الأحباش والفرس خاصة (٢) ، وقد كانت موطنا لهمدان.
مفهوم المدينة وواقعها في بلاد العرب
حتى ولو قبلنا بتعايش المدينة مع شكل معين من الترحل ، في المدن النبطية والثموديه ، فإن مفهوم المدينة يفترض مسبقا التحضر. لكن التحضر في حد ذاته لا يفرز تلقائيا المدينة ، مع أن الإقامة والاستقرار ضمن سياق بلاد العرب المترحلة ، خارج اليمن ، ينزع إلى التحول إلى تجمع مدني أو شبه مدني. ولذا ، فالقول بأن التحضر في بلاد العرب خلال العصر الجاهلي كان متفوقا على الترحل كما فعل دونّر Donner (٣) وأن الواقع المدني بقي هزيلا (٤) يعادل التصريح بما هو تناقض كبير. الواقع أنه لا شك قط أن عدد الرحل كان يتجاوز الحضريين ، حتى لو أخذنا اليمن في الحساب ، كما يتبين ذلك من بنية الجيوش العربية الغازية (٥). والواقع من الوهم التفكير ، انطلاقا من تجربة لشام مع العرب الأوائل ، بأن بلاد العرب كانت متمدّنة أولا ثم غمرتها بعد قليل موجة «البدونة». الواقع إذا
__________________
(١) المسعودي ، مروج الذهب ، ج ٢ ، ص ٢١١ ؛ ابن رسته ، الأعلاق ، ص ١١٣ ؛ السيرة ، ص ٢٣ ؛ الحديثي مرجع مذكور ، ص ٤٦ ، ٧٣ ـ ٧٤ ؛ Strothmann,» San\'a «, E. I. / ١; M. Rodinson,» Bilan des Etudes Mohammadiennes «, Revue Historique, pp. ٠٨١ ـ ١٨١, وانظر كذلك :» L\'Arabie du Sud. chez les auteurs classiques «in L\'Arabie du Sud, I, pp. ٩٥ ff.
(٢) الرازي ، مرجع مذكور ، ص ٥٣٧ ؛ السيرة ، ص ٤٥.
(٣) F.Donner ,Ouvr.cit.,pp.١١ ,٦١.
(٤) Ibid.,p.٥١.
(٥) انظر فيما يلي عرضا للقبائل التي حضرت وقعة القادسية. كانت تتعايش بالشام قضاعة واليمنيون والقيسيون :. Chaban, op. cit., pp. ٢٤ ff. كان اليمنيون في البداية خاصة العرب منهم ، كقبائل عك والسكون ومذحج ، يفوقون عددا القيسية الذين كانوا أوائل الفاتحين. ثم طرأت في فترة لاحقة هجرة قيسية قوية أدت إلى ظهور توازن في عدد الجماعتين. كان أكثر القادة في صفين من قيس بجيش معاوية : الطبري ، ج ٥ ، ص ١١ ـ ١٢ ؛ نصر بن مزاحم ، وقعة صفين ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧. وكانت جموع قيس بإمرة الضحاك في مرج راهط يعدون ٦٠٠٠٠ رجل ، وكانوا قطعا أكثر عددا من الجيش المقابل الذي اشتمل على جموع من غسان وكلب والسكون : البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٥ ، ص ١٣٦. ذكر ذلك رودنسون نقلا عن كاسكل.M.Rodinson ,art.cit.,p.٠٩١. :(Caskel)