حيّز يتنافر وتلاقي دابتين مثقلتين بالأحمال. وقد اعتمد عمر هذا العرض بالنسبة للسكك الاعتيادية في البصرة والكوفة ، ثم في بغداد بعد ذلك ، بينما كان عرض الشوارع يبلغ ٢٠ ذراعا (ما يقرب من ١٠ أمتار) فكانت تفصل كتل الدور وعمقها ٣٠ مترا ... وقد ظهر اهتمام تنظيمي مرموق ، ونظام صارم ، وتصميم موضوع بحزم ، حتى في عدة منشآت مدنية إسلامية في بدايتها» (١). ثم أضاف أن «اختلاف المخطط في المدن الإسلامية هو في أكثر الحالات ، واقع مكتسب وليس واقعا تكوينيا» ، وأن الامر لا يتعلق «بنقص جذري» ، بل بالاحرى بتطور لاحق يمكن أن يعزى إلى فقدان التنظيم البلدي فقط. هذه حجة منقوصة لأنه لم يمتنع على الدولة تحمل المهام البلدية المهمة ، كما فعل عمر بالنسبة للكوفة ، والمنصور بالنسبة لبغداد ، كما أنها حجة خادعة دافع عنها الاستشراق القديم مدة طويلة ، وقد صارت محل اتهام في العصر الحديث ، لأنها تستند إلى مثالية المدينة اليونانية ومدينة العهد الوسيط وتعرّف المدينة الاسلامية لا بما هي ، بل بما ليس فيها.
ومع أن روبير برونشفيك درس تطور التمصير الاسلامي من خلال مصادر الفقه ، فقد كان شعوره حادا بالعناصر الحضارية التي ينبغي اعتبارها لشرح هذا المظهر اللافت للنظر في المدينة الاسلامية : تصور الأسرة المنطوية على نفسها (٢) ، ونوع من التسامح القريب من الاهمال تجاه المبادرات الفردية (٣). الشيء الذي جعل الأولوية للبيت على قارعة الطريق العامة التي تواصل قضمها بسبب إمتداد البناءات ، في حين أن الخرابات والأماكن المفتوحة كل الفتح كانت متراكمة فضلا عن ذلك. يقول (٤) : «إن الطريق العمومية سيئة الحماية ، والتسامح يتجه إلى من ينمي الملكية المبنية ، ولو كان ذلك على حساب الساحات والسكك». هذه ملاحظ صحيحة قطعا ، لكن ما هو سبب عجز السلطة عن العناية بالطرق والمحافظة عليها ، بينما كان هذا الشاغل قائما في القرنين الأول والثاني من الهجرة؟ لعل الاندفاعات العميقة هي التي طغت على كل إرادة تنظيمية لدى السلطة التي تنشيء وتؤسس ، ثم تفشل في الصيانة. كانت اندفاعات سكانية ، وتصاعدات لنزعات ثقافية ما زالت حية (النزعة البدوية والشرقية وغيرهما) ، وتنظيم الحضارة الاسلامية ذاتها في إطار المدينة أو نشوؤها البطيء داخل بعض المدن الرئيسة بالذات. لا يوجد أي شك في وجوب طرح قضية الترابطات العميقة الخفية والتطورية أيضا ، بين نمط الحياة كما تكون بفضل سلسلة من الخيارات والالغاءات ، وبين الشكل المدني ، كما يتقولب حول أقوى متضمناته.
__________________
(١) op.cit.,p.٣٢١.
(٢) op.cit.,p.٠٤١.
(٣) Ibid.,pp.٢٣١ ـ ٤٣١.
(٤) Ibid.,p.٤٥١.