كانت صغيرة (لم تتجاوز ثلاث حجرات) فليس من المعقول أن تتكدس الدور في قطيعة لا يزيد عرضها عن ٣٢ مترا. كان للعرب تقليد المعسكر ، وقد لاحظ فوق ذلك مخططوهم وعايشوا في عين المكان بنية المدائن المجالية. فبعد قبول فكرة هندسية المظهر الأولى ، يبقى من المرجح أن الزقاق كان يقسم القطائع قسمين في اتجاه الطول ، مثله في ذلك مثل سلسلة السكك السابق وصفها. لكن ليس من شك في وجود أزقة عمودية لضمان الاتصال (١).
وبذلك نصل أخيرا إلى نسق حقيقي مرتب من المناهج الطولية التي عليها رصفت الدّور ، كما كانت الخيام تصف في مخيمات البدو ، الواحدة تلو الأخرى. وفي أدق قطيعة من قطائع السكنى ، بمعنى نصف القطيعة عرضا بعد طرح الزقاق ، لا شك أن الدور أقيمت أزواجا ، مع خلاء طفيف فاصل ، أو أنها كانت متلاصقة لا غير. نجد الشيء نفسه من وراء الزقاق ، وعلى النصف الثاني من القطيعة ، وقد ذكر الشيخ علي الشرقي في دراسته المنشورة بمجلة الاعتدال لعام ١٩٣٢ ما يلي :
«وكان العرب أول هبوطهم إلى العراق ينزلون الشواطىء من الريف والسواد ويبنون بشكل هندسي مكون من خيمتين خيمتين وإذا طغى النهر ارتفعوا عن الشواطىء ملتجئين إلى المخيمين الكبيرين البصرة والكوفة» (٢).
إنه خبر ثمين مستمد على الأرجح من مدونة شيعية مجهولة لدينا. وقد نقله هذا الرجل النجفي الأصيل والمطلع على العوائد البدوية. ونحن نقتبس منه البنية التماثلية المتزاوجة للدور. ولنضف أنه كان لماسينيون تخمين باصطفاف الخيام ، لكنه افترض أنها كانت تراكب المناهج أو حتى تكونها ، وهو أمر لا يمكن قبوله (٣). وبخصوص عشائر همدان
__________________
مطاردا ، فكان الفتيان «يدلونه» عبر الأزقة لبلوغ النخع. هذا في سنة ٥١ ه. لكن القضية برمتها ترمي إلى معرفة ما إذا كان أبو مخنف لم يعكس رؤيته للكوفة العتيدة.
(١) لا بد أن تقاطع المناهج كان يتم على شكل زاوية قائمة لأن البناء كان من آجر ، كما في المدن القديمة في بلاد الرافدين. وعلى هذا النحو ، نصل إلى مخطط شبيه بالشبكة.
(٢) ذكره البراقي ، تاريخ الكوفة ، ص ١١٨. هل أن «قرار البناء» الممهد لتخطيط المدينة الذي تحدث عنه سيف شمل كافة الدور في واقع الأمر؟ ألم يكن بالأحرى قرارا عاما انطبق على القصر والمسجد ودور الطبقة الارستقراطية ، لا على جمهرة المهاجرين؟ المرجح أن هؤلاء قد استمروا على العيش تحت الخيام وفي خصاص من قصب. يذكر ابن سعد بكل تأكيد أن في خلافة علي (٣٦ ـ ٤٠ ه) «عامة الكوفة يومئذ لأخصاص» ج ٦ ، ص ٢٣٨.
(٣).op.cit.,p.٨٣ كانت المناهج مبنية باللبن كما ذكر ماسينيون نفسه وعلي الشرقي ، وكما أكده سيف خاصة ، فذكر عبارة «بنوا مناهج». إن عبارة «جدران صغيرة من آجر» صالحة ، لكنها توحي بفكرة الفصل الدقيق بين الخطط القبلية ، وأن الخطط ذاتها محصورة بين المناهج.