قصده ماسينيون من أنها صفوف المساكن ، وهو معنى غير شائع (١). المقصود بالذات هي شوارع معلمة تفصل بين خطط القبائل بأنواعها ، وتسمح لكل قبيلة بالتحول إلى المركز ، عبر طريق خاصة بها حددت لها مسبقا. وما جعل ماسينيون يخطىء في هذا الأمر اعتقاده أن الاستقرار الأول تمّ طبق النموذج البدوي المتمثل في اصطفاف الخيام ، وهو نموذج بقي معمولا به في موسم الحج. لكن لا نجد شيئا من ذلك في الصورة التي نحن بصددها ، ولو كان ذلك لفقد نص سيف كل تماسك. ونجد هذه الطرق ، سواء طابقت السكك أم لا ، مذكورة بالنسبة لفترات لاحقة وبوصفها شرايين للاتصال البشري ولتنقل الجنود الثائرين أو المؤيدين للحكومة داخل المدينة. بل نجدها أيضا مذكورة في بغداد الجديدة ، مع اتساع يمتد من ٤٠ إلى ٥٠ ذراعا ، محفوفة بالدكاكين والدور. وقد روي أن المنصور أمر بهدم بعض منها ، محافظة على عرض الطريق المحدد مسبقا (٢). كان لتخطيط الطرق الكبرى أهميته إضافة إلى ترتيبه التنازلي من ٤٠ ذراعا (٣) (قرابة ١٦ ، ٢١ مترا) إلى ٣٠ ثم ٢٠ ثم ٦ ، ما جعل سيفا يعرض الأمور وكأن هذا التخطيط كان أول أمر صادرا عن عمر في شكل توصية شديدة الخطورة. أن يكون لعمر في هذا الموضوع آراء بمثل هذا الوضوح فهو أمر يصعب تصديقه ، ولعل سيفا أسقط على عمر العمل الذي أنجزه المنصور بشأن بناء بغداد. لكن علينا أن نتذكر أن مخططي الكوفة ـ نعني سعدا وأبا الهياج ، ومستشاريهم من الحيرة أو من فارس أو من النبط ـ صمموا المدينة في شكل مجموعة هندسية عقلانية منفتحة. لكن هل خططوا لذلك مسبقا؟ ألا يليق أن نعتبر ذلك إسقاطا حيث تحدث المؤلف عن شوارع متوازية ، تخترق الطرق الرئيسية وعن شوارع أخرى «تتبعها» ، وحتى عن أزقة ومناهج صغرى لا يمكن أن يخطط لها بالطبع مسبقا. وهي تبرز بالذات في التراص المشط ، وفي فوضى التطور المقبل. ولا ننسى أن سيفا مات فيما بين سنة ١٧٠ / ٧٨٦ و ١٩٣ / ٨٠٩ ، بحيث يكون ألّف كتابه بعد سنة ١٥٠ / ٧٦٧ (٤). هذا ويجب أن لا يبقى أي شك عن فتح شوارع عريضة في حزام السكن منذ البداية ، سواء صاحبتها طرق ثانوية أم لا ، بصفتها
__________________
(١) مرجع مذكور ، ص ٤٥.
(٢) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٥٤ : كتاب البلدان ، ص ٢٤٢ ؛ قال الطبري إنها ٤٠ ذراعا ، وذكر اليعقوبي أنها ٥٠ ذراعا. وقد استخدم الطبري كلمة طريق ، واستعمل اليعقوبي كلمة شارع وهو يقصد المناهج الكبرى.
(٣) من البديهي أن الأمر يتعلق بالذراع السوداء التي تساوي ٤ ، ٥٤ سنتمترا : Hinz, Arabische Masse Und. Gewichte, p. ٤٦.
(٤) لا نعلم إلّا القليل عن حياة سيف : فؤاد سزكين ، مرجع مذكور ، ج ١ ، ص ٤٩٨ ؛ وذكر عبد العزيز الدوري سنة ١٨٠ ه / ٧٩٦ تاريخا لوفاته : علم التاريخ عند العرب ، ص ١٢١. وانظر ما سبق حول تقييم ما قدمه سيف.