أما بالنسبة للقرآن العظيم فإن هذه الظاهرة مدفوعة أصلاً إذا ليس في القرآن مهمة لفظية على وجه ، ومهمة معنوية على وجه آخر بل هما مقترنان معاً في أداء المراد من كلامه تعالى دون النظر إلى جزء على حساب جزء غيره ، فالتصور فيه دفعي جملي مرة واحدة دون تردد أو إمهال ، وحسبك ما تشاهده في جميع أصناف المحسنات البديعية الواردة في القرآن ، وفي طليعتها السجع وانتظام الفواصل وتوافقها دليلاً على صحة هذا الرأي ، وطبيعي أن نهاية الفقرات والسجع في النثر العربي ، تقابله الفواصل في القرآن الكريم وهي تسمية اختيارها جهابذة الفن ، وعلماء الصناعة تكريماً للقرآن عن مقايسته بسواه.
إذن هذه الفواصل على تقاطرها وتواردها في النصوص القرآنية وقد يرتفع بعضها إلى سور متكاملة لا سيّما القصار كالإخلاص ، والقدر ، والناس ، والجحد ، والعصر ، والكوثر ... الخ.
وهناك سور متوسطة الطول والقصر وقد تناوبها السجع من أولها إلى آخرها كما هي الحال ـ على سبيل الأنموذج في سورة الأعلى.
إن هذه السورة ولنتبرك بذكرها كاملةً : ـ
« بسم الله الرحمن الرحيم »
( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَىٰ (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ (٦) إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (٨) فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (٩) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَىٰ (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَىٰ (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (١٧) إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىٰ (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (١٩) ) ».
مما وقف عنده العرب موقف المتحير المتعجب بوقت واحد فهي على وتيرة واحدة في فاصلة متساوية تختتم بالألف ، ومن أولها إلى نهايتها ، ولو شئت أن تغير أية كلمة من هذه الفواصل ، وتضع ما يلائمها بدلها في سبيل تغيير صيغة الفاصلة لما استطعت أن تحقق الدلالة اللفظية