المبيض. وإذا كان هذا يعزى إلى الظهور بمظهر متواضع فإن ملابسه الشخصية لم تكن تؤيد ذلك. لأنه كان يرتدي ألبسة حريرية فاخرة وفروا ثمينا ، وكان يضع فوق رأسه عمامة بديعة من الشال الكشميري ـ التي تكاد لا تتفق مع المظهر الذي يظهر به الدراويش. غير أن الأولياء والقديسين في هذه الأيام يتمتعون بامتيازات غير يسيرة ، ويقال إن هذا الرجل بالذات يتمتع بثراء فاحش. وقد كان حديثه متحفظا نوعا ما ، فأظهر لنا ما يعبر عن نكران للذات من العواطف التي لم تكن بالتأكيد خارجة من القلب لأنه في قرارة نفسه كان من الخارجين المشهورين على القانون ، وخاصة للمشروبات القوية التي كان يضمر إعجابا شديدا بها. فإنني أعتقد في الحقيقة أن هذه المحلة كانت في أيام عزها تستهلك مقدارا من الخمر والعرق يزيد على ما كان يستهلك منهما في المدينة كلها. وكان النقيب شخصيا رجلا جسيما ، طويل القامة ، أبيض البشرة ، له أنف أقنى وعينان زرقاوان كبيرتان ، وشكل رقيق الشمائل.
وبعد تقديم الشطب للتدخين وتناول القهوة ، التي لا بد أن تقدم في كل زيارة تركية ، توجهنا إلى المرقد والجامع اللذين كانا يستحقان تحمل الإزعاج والمشقة من أجلهما. إذ يوجد القبر في الداخل تحت قبة في جناح مثمن الجوانب (أو مربع) ، مزين كالمعتاد بالآجر القاشاني ، الذي كتبت عليه آيات من القرآن الكريم ، ومفروش فرشا لا بأس به بالسجاد. ويقوم من فوقه سرادق من الحرير الأخضر ، كما تحيط به شبابيك عالية من الفضة الصلبة. والغريب في الأمر أن هذه الشبابيك كانت هدية من أحد اليهود لهذا المرقد. وقد كان هذا الشخص (١) صرافا لأحد الباشوات ، وفي أحد الأيام اصطحبه سيده في زيارة تعبدية لهذا المرقد فأخبر هناك بأن من عادة الغرباء أن يقدموا هدية من
__________________
(١) ربما كان هذا الصراف اليهودي إسحاق الذي كان مقربا عند داود باشا ومن مشاوريه الخاصين على ما تقول بعض الروايات ، حتى أنه استشاره في قضية مقتل صادق أفندي القبوجي المار ذكره في هذه الرحلة. أو قد يكون الخوجة يعقوب الصراف اليهودي الذي كان مقربا عند سليمان باشا الكبير الذي حكم قبل داود بمدة طويلة ، أي في أواخر القرن الثامن عشر ، وعلى كل فنحن لا نعلم مقدار الصحة في هذا الخبر.