كانت فرنسا تطمع بالاستيلاء على مصر من قبل قيام ثورة ١٧٨٩ ، فزارها عدد من سياحها ووصفوها ، من أشهرهم فولنه الذي تجول في الشرق من سنة ١٧٨٣ إلى سنة ١٧٨٥ وكتب كتابا قيما عن وضعه الجغرافي والسياسي والعمراني ، وقال عن مدينة الاسكندرية أن تحصناتها الحربية عديمة الوجود (١). وعندما أبحرت القوات العسكرية الفرنسية متوجهة إلى مصر ، فقد هذا الكتاب من الأسواق. وبعد أن استولى بونابارت على الحكم ، أراد من جديد أن يقطع على انكلترا طريق الهند ، كما أثبتناه مفصلا في المقدمة الفرنسية ، فأرسلت السلطات الكولونيل سبستياني (٢) ، سنة ١٨٠٢ ، وفانسان بوتان (٣) ، سنة ١٨١٠ ، للكشف عن الوضع العسكري في الشرق. ولعل القرار على مهمة لاسكاريس صدر عن نفس الدوائر الفرنسية العالية.
وهنا يقف المؤرخ وقفة الحائر المتردد ، إذ لا يجد أي وثيقة تؤكد صحة ما ادعاه لاسكاريس ، بناء على ما ذكره الصايغ ، من أنه موفد إلى الشرق ليكسب صداقة أمراء البادية. ولم أجد في المخابرات القنصلية الفرنسية الخاصة بمدينة حلب ذكرا للاسكاريس ، مع أنه أقام في هذه البلد أكثر من سنة ، وكانت تأتيه الأموال منها ، على ما يقول الصايغ. ولكن ليس من عادة الدوائر الجاسوسية أن تعطي تعليماتها بالطرق الرسمية. ولا يمكن أن تكون هذه القصة من ابتداع السائح السوري. فأنّي لشاب لا يحسن غير البيع والشراء أن يكون عارفا بالسياسة العالمية وعلى علم بأسماء عدد من كبار الشخصيات الفرنسية المقيمة في الشرق ، من قناصل وسفراء حتى أنه تحدث عن وصول الجنرالين سافاري ولالمان إلى أزمير بعد سقوط نابوليون؟ ولا شك عندي في أن رحلة الصايغ ليست وليدة الخيال ، وإن كان الخيال لعب بها ، ولا يمكن لأي ناقد قرأ هذه المذكرات ، واطلع على دقة الوصف فيها لبعض القرى السورية والأماكن الأثرية والحياة البدوية إلا أن يسلّم بحكمنا هذا. ولعلّ لاسكاريس أوهمه أنه كان موفدا من قبل نابوليون ، أو لعل
__________________
(١) فولنه ، رحلة إلى مصر وسورية ، ص ٢٨ (بالفرنسية) ، تحقيق جان غولميه ، باريس ١٩٥٩.
(٢) الأب لامنس ، تاريخ سورية ، ج ٢ ، ص ١٢٨ (بالفرنسية) ، بيروت ، ١٩٢١.
(٣) ج. م. كرّيه ، الرحّالون والكتبة الفرنسيون في مصر (بالفرنسية) ، ج ٤ ، باريس ، ١٩٦١ وقد اغتال العلويون بوتان سنة ١٨١٥.