والوجه الثاني : أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي ، أي ورّاثا. ثم أضمر فعل أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان ، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي ، بيّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون ، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم ، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في : جعلنا ، مضمر محذوف ، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.
الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي أي : ورّاثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ، فيكون جعلنا صفة لكلّ ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف ، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال ، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر ، فيتعلق لكل بمحذوف ، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور ، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله ، أي حظ من رزق الله. وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال ، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون ، جعلنا موالي أي ورّاثا يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل ، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين ، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي ، وفي جواز ذلك نظر.
واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : هي الحلف. فإنّ العرب كانت تتوارث بالحلف ، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) وعنه أيضا هي : الحلف ، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر ، والوفاء بالكلف ، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضا : هي المؤاخاة ، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم ، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة ، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب : هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه ، هو الوصية لا الميراث ، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.