وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدّم قول من قال : ان النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته.
(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ) انتصاب : هدى ، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل ، أي : هاديا للناس ، فيكون : للناس ، متعلقا بلفظ : هدى ، لما وقع موقع هاد ، وذو الحال القرآن ، والعامل : أنزل ، وهي حال لازمة ، لأن كون القرآن هدى هو لازم له ، وعطف قوله : وبينات ، على : هدى ، فهو حال أيضا ، وهي لازمة ، لأن كون القرآن آيات جليات واضحات وصف ثابت له ، وهو من عطف الخاص على العام ، لأن الهدى : منه خفي ومنه جلي ، فنص بالبينات على الجلي من الهدى ، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، فذكر عليه أشرف أنواعه ، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة.
(مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) هذا في موضع الصفة لقوله : هدى وبينات ، أي : أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته ، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية ، فهذا القرآن بعضها ، وعبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جليا واضحا حصل به الفرق ، ولأن في لفظ : الفرقان ، مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) ثم قال : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، ثم قال : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه.
ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران ، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه ، وفي (المنتخب) أنه يحتمل أن يحمل : هدى الأول على أصول الدين ، والثاني على فروعه.
وقال ابن عطية : اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني : أنه أتى به منكرا أولا ، ثم أتى به معرفا ثانيا ، فدل على أنه الأول كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١) فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه ، ومن ذلك قولهم : لقيت رجلا فضربت الرجل ، فالمضروب هو
__________________
(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٥ و ١٦.