الجمل هنا مقدما فيها الشفاعة ، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى ، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين. وبدىء هنا بالشفاعة ، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس ، وجاء هنا بلفظ القبول ، وهناك بلفظ النفع ، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء ، وانتفاء ما يترتب عليه. وبدىء هنا بالقبول ، لأنه أصل للشيء المترتب عليه ، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجودا ، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخر وجودا.
(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) : تقدم الكلام على إذ في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ) (١). ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولا به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها ، فقياس قوله هناك إجازته هنا ، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا أن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا ، كأنه قال : اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ، ووقت تنجيتكم ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي : (وَاتَّقُوا يَوْماً). وقد قدمنا أنا لا نختار أن يكون مفعولا به بأذكر ، لا ظاهرة ولا مقدرة ، لأن ذلك تصرف فيها ، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك ، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف ، ويكون العامل فيه فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله ، تقديره : وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون ، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه. وخرج بقوله : أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل على تعظيم في قوله : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ) ، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم ، هو من أعظم ، أو أعظم النعم ، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه. وقرىء : بأنجيناكم ، والهمزة للتعدية إلى المفعول ، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هذه القراءة للنخعي. وذكر بعضهم أنه قرأ : أنجيتكم ، فيكون الضمير موافقا للضمير في نعمتي ، والمعنى : خلصتكم من آل فرعون ، وجعل التخليص منهم لأنهم هم الذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة ، وإن كان أمرهم بذلك فرعون ، وآل فرعون هنا أهل مصر ، قاله مقاتل ، أو أهل بيته خاصة ، قاله أبو عبيد ، أو أتباعه على ذنبه ، قاله الزجاج ، ومنه : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) (٢) ، وهم أتباعه على ذنبه ، إذ لم يكن له أب ، ولا بنت ، ولا ابن ، ولا عم ، ولا أخ ، ولا عصبة ، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وروي أنه قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : من آلك؟ فقال : «كل تقي». ويؤيد القول الثاني : لا تحل الصدقة لمحمد وآل محمد. والمراد بالآل هنا : آل عقيل ، وآل عباس ، وآل
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٠ ، وسورة الأنفال : ٨ / ٥٤.