وتعمل بالزراعة ، وإنما ظلت على الأطراف ، بين الصحراء والخضراء ، تعمل أساسا بالرعي ، أو بالتجارة الدولية ، عبر نقل البضائع على دوابها ، أو توفير الحماية لها ، أو حتى المساهمة الفعلية فيها.
في هذا الإطار ، يمكن قبول النوى التاريخية للروايات التوراتية ، بعد تجريدها من العنصر القصصي والأسطوري الذي نسج حولها على مرّ العصور. فالوصف التوراتي للجماعة التي قادها إبراهيم ، بخطوطه العريضة ، وما تورده الأسفار الأولى من التوراة عن علاقة تلك الجماعة ببطون أخرى من قبيلتها ، ينسجم بالعام ، بغض النظر عن الخاص ، مع الخريطة السكانية للهلال الخصيب ، في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. فإلى جانب سكان المدن المسوّرة ، التي قامت وازدهرت في ذلك العصر ، أكان ذلك في السهول ، أو المروج ، أو على الطرق الرئيسية للتجارة الدولية ، كانت هناك عناصر بدوية متنقلة على أطراف الصحراء ، وفي المناطق الجبلية قليلة السكان. ويبدو أن العبرانيين ينتمون في بداية ظهورهم في فلسطين إلى هذه العناصر.
وعلى افتراض أن قصة رحيل إبراهيم ، وغيره من أقاربه وأبناء عشيرته ، من العراق إلى فلسطين ، مرورا بمدينة حرّان ، ليست أسطورة من نسج الخيال ، فإنها بالتأكيد لا يمكن اعتبارها تاريخا ، لأن التاريخ غائب عنها تماما. وتسترعي الانتباه ظاهرة أن الشخصيات التي تركز عليها الروايات التوراتية ـ إبراهيم وتيرح وناحور ولوط وإسحاق ويعقوب وحتى يوسف ، لا يرد لها ذكر في المصادر الأخرى. وإذا أمكن استيعاب ذلك على أساس أن هذه الشخصيات المركزية في التوراة هي هامشية جدا بالنسبة إلى المراكز المدينية الكبرى في ذلك العصر ، فإن ما يدعو إلى الاستغراب هو تعذر تعريف شخص واحد من الأسماء الواردة في تلك الروايات بثقة ، بالاستناد إلى النصوص التاريخية المتوفرة.
ومشكلة أخرى تواجه الباحث في هذه الروايات ، تتعلق بغياب التواريخ ، وعفوية استعمال الأعداد. وعلى افتراض تاريخية الأحداث المذكورة في أسفار التوراة القديمة ، وبناء على الوصف العام للواقع السكاني والاجتماعي ـ السياسي ، في مناطق تجوال إبراهيم وعشيرته ، ففي الإمكان اعتبار حدوث هذه الهجرة في أية فترة خلال ألف عام ، منذ سرجون الأكادي إلى الاحتلال الإسرائيلي لبعض أرض ـ كنعان ، أي في الفترة (٢٣٠٠ ـ ١٣٠٠ ق. م. تقريبا). وتتبلور لدى الباحثين مؤخرا نظرية تربط هجرة العبرانيين إلى فلسطين ، ونزول بعضهم إلى مصر ، ومن ثمّ الخروج منها على دفعات ، بحركة الهكسوس في بلاد الشام. ويقول البعض إن المسوحات الأثرية في شرق الأردن وجنوب فلسطين تؤيد ذلك.