وبإقدامها على الخطوة الأولى بالهجرة والاستيطان ، دشنت مرحلة جديدة في الصهيونية ـ انتقالها من حيز الفكرة إلى صعيد التطبيق العملي. وتتالت بعدها الهجرات في الفترات التالية : الثانية (١٩٠٤ ـ ١٩١٤ م) والثالثة (١٩١٩ ـ ١٩٢٣ م) والرابعة (١٩٢٤ ـ ١٩٣١ م) والخامسة (١٩٣٢ ـ ١٩٣٩ م) والسادسة (خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى ١٩٤٨ م) والسابعة (بعد ذلك). وكل هجرة منها تحددت إنجازاتها بحسب أهدافها والأوضاع التي واكبتها وقدرة مؤسساتها على تجسيد المشروع الصهيوني ؛ أيديولوجيا بتجنيد اليهود للهجرة ، وسياسيا بالحصول على دعم القوى الكبرى ، وعمليا بتعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين. أمّا الهجرة الأولى ، فقد اصطدمت بعقبات كبيرة ذاتية وموضوعية ، وضعتها على حافة الانهيار ، الأمر الذي أحبط آمال المستوطنين ، ولكنه شجع النشاط السياسي في المراكز الإمبريالية ، عبر استغلال التطورات والأحداث الكبيرة على المسرح العالمي.
لقد بنت حركة بيلو آمالا كبيرة على نجاحها ، الذي لو تحقق لشكلت قدوة ليهود العالم ، كما اعتقدت ، وبالتالي يقوم «المركز القومي اليهودي». ولكنها ما لبثت أن انطلقت حتى تعرقلت ، سواء لأسباب ذاتية ـ قلة المهاجرين وندرة الموارد المالية وغياب الخبرة في العمل الجديد ـ أو لأسباب موضوعية ـ المعارضة العثمانية والمقاومة العربية. فانتقال المستوطنين إلى حياة جديدة متباينة جذريا ، وفي أرض غريبة عنهم ، أصابهم بخيبة أمل مريرة. وكان عليهم أن يبدأوا من الصفر ، في عمل تنقصهم فيه الخبرة ، وحتى الأهلية الجسدية والنفسية ، ولم يكونوا مهيئين ، لا جسديا ولا نفسيا أو معرفيا ، للصمود أمام متطلبات الواقع الجديد. لقد جاؤوا من المدن ، ومن أوساط البورجوازية الصغيرة ، ليعملوا في الزراعة في أوضاع مناخية وإقليمية لم يعتادوا عليها. ودبت فيهم الأمراض التي تنقصهم المناعة الذاتية ضدها ـ الملاريا. وفي المقابل ، فرضت السلطات العثمانية قيودا صعبة على تحركهم ، خوفا من ازدياد نفوذ الدول الأوروبية في أراضي السلطنة. فحظرت عليهم شراء الأراضي وبناء البيوت ، وكان عليهم الالتفاف على القوانين بأساليب ملتوية. وكذلك كان على المستوطنين أن يحموا أنفسهم وممتلكاتهم إزاء المقاومة العربية ، إذ رأى السكان المحليون فيهم عنصرا غريبا ، يسعى لإزاحتهم من أراضيهم والحلول مكانهم.
وبينما هذه المستعمرات على حافة الانهيار ، انبرى البارون إدموند دو روتشيلد لإنقاذها ، وبالتالي وضع اليد عليها. فاعتمد الموظفون الذين أرسلهم أسلوب عمل الفرنسيين في شمال إفريقيا «الكولون». وفي سنة ١٨٨٣ م أقام البارون مستعمرة عقرون ، وأرسل مرشدين لتدريب المستوطنين في فروع الزراعة. وقد تطور هذا