ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية ، (١١٥) وهي مدينة عظيمة أصيلة ، وكان عليها سور محكم لا نظير له في أسوار بلاد الشام ، فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها ، وأنطاكية كثيرة العمارة ، ودورها حسنة البناء كثيرة الأشجار والمياه ، وبخارجها نهر العاصي ، وبها قبر حبيب النجار(١١٦)رضياللهعنه ، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر ، شيخها الصالح المعمّر محمد بن علي ، سنّه ينيف على الماية ، وهو ممتع بقوته ، دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطبا ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة ، ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين إلا أنه محدودب الظهر لا يستطيع النهوض ، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولدا والولد والدا!!
ثم سافرت إلى حصن بغراس (١١٧) وضبط اسمه ببناء موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل ، وهو حصن منيع لا يرام ، عليه البساتين والمزارع ، ومنه يدخل إلى بلاد سيس (١١٨) ، وهي بلاد كفار الارمن ، وهم رعية للملك الناصر يؤدون إليه مالا ، ودراهمهم فضة خالصة ، تعرف بالبغلية (١١٩) ، وبها تصنع الثياب الدبليزية (١٢٠) ، وأمير هذا الحصن صارم الدين بن الشيباني ، وله ولد فاضل اسمه علاء الدين وابن أخ اسمه حسام الدين فاضل كريم يسكن الموضع المعروف بالرّصص بضم الراء والصاد المهمل الأول (١٢١) ، ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.
__________________
(١١٥) انطاكية كانت مقرّا للإمارة الأنطاكية ٤٩١ ـ ١٠٩٨ ، إلى أن فتحها بيبرس عام ٦٦٦ ـ ١٢٦٨ هذا وتقع أنطاكية الحالية ضمن السيادة التركية.
(١١٦) شخصية حبيب النجار معروفة عند المهتمين بأمر السيد المسيح عليهالسلام ، معروفة باستشهادها في سبيل العقيدة، وحسب رأي بعض المفسّرين فإن حبيبا هذا هو الرجل الذي تشير إليه الآية الشريفة : (" وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) سورة يس) رقم ٣٦ ـ القبر إلى الآن يحظى بالاحترام ...
(١١٧) حصن بغراس (BAGRACE) الذي بني من لدن الامبراطور البيزنطي نيسفور فوكاس ـ (NIC EPHOR PHOCAS) عام ٣٥٧ ـ ٩٦٨ لحماية ممرّ بشمال أنطاكية ، يسمى من لدن الصليبيين گاستون أو كاستان ، لكن الحصن لم يلبث أن فتح من لدن صلاح الدين الأيوبي ٥٨٤ ـ ١١٨٨.
(١١٨) مملكة سيس أو أرمينية الصغرى أسسها الأمير روبّينيد (Rupenid) أمير سيليسيا (CILICIA) ٤٧٢ ـ ١٠٨٠ وقد تحالفت من وقت لآخر مع الصليبيين في انطاكية .. إلى أن سقطت هذه في يد المماليك (بيبرس) حيث أصبحت سيس تؤدي الجزية للماليك عام ٧٢٤ ـ ١٧٢٣.
(١١٩) الكلمة من أصل فارسي وهي تعني درهما ثقيل الوزن وقد ورد ذكرها عند ابن خلدون مرارا.
(١٢٠) ترجمها الأستاذ (گيب) ج ١ ص ١٠٤ تعليق ١٤٣ على أنها الدبيلية باللّام نسبة إلى (دبيل) : العاصمة الأرمنية القديمة. ونقرأ في مخطوطة گايانكوس ومولاي العباس : الدبليزية ، ربما تحريف عن دبليس أي الثياب ذات النقوش الدائرية على نحو الدّبالس أي الدمالج ... أنظر دوزى مادة (دبل)
(١٢١) الرصص هي حاليّا أرسو على الساحل جنوب الاسكندرية.