وسرنا إلى أن وصلنا إلى مدينة قسنطينة (٢٧) فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود إضطرنا إلى الخروج عن الأخبية ليلا إلى دور هنالك ، فلما كان من الغد تلقانا حاكم المدينة وهو من الشرفاء (٢٨) الفضلاء يسمى بأبي الحسن (٢٩) فنظر إلى ثيابي وقد لوّثها المطر فأمر بغسلها في داره وكان الإحرام(٣٠) منها خلقا فبعث مكانه إحراما" بعلبكيا" وصرّ في أحد طرفيه دينارين من الذهب ، فكان ذلك أول ما فتح به علي في وجهتي. ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة (٣١) ونزلنا بداخلها وأقمنا بها أياما ثم تركنا بها من كان في صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق (٣٢) ، وتجردنا للسير وواصلنا الجد وأصابتني الحمى فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف ولا يمكنني النزول من الخوف إلى أن وصلنا مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزّبيدي ، ولقاء أبي الطيب ابن القاضي ابي عبد الله النفزاوي ، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ، ولم يسلّم علىّ أحد لعدم معرفتي بهم فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل عليّ بالسلام والإيناس. وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين (٣٣).
__________________
(٢٧) يلاحظ أن ابن بطوطة وصل إلى قسنطينة بعد رفع الحصار الذي كان مضروبا عليها والذي استمر طوال نصف شهر، حسب المعلومات التي قدمها إلينا ابن خلدون وابن القنفذ.
(٢٨) نعت (الشريف) بالمغرب يدل على المعنى الذي تقصده كلمة" السيّد" في المشرق ، اعني المنحدر من السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلىاللهعليهوسلم.
(٢٩) كانت ولاية قسنطينة مسندة أيضا للأمير أبي عبد الله محمد أحد أبناء أبي يحيى أبي بكر الحفصي ، ولكنه نظرا لصغر سنة عزز كذلك بأحد أرباب الدولة ، وربما كان أبا الحسن أحد أولئك القواد ، ابن القنفذ : الفارسية.
(٣٠) لا يقصد بالإحرام هنا الثوب الذي يرتديه الحاجّ (الغير المخيط والمحيط) ، ولكن القصد إلى ثوب يجعل على الرأس ويمتدّ إلى الأكتاف على نحو الطيلسان ...
(٣١) بونة هي بالذات عنابة ، وقد كان واليها أيضا على ذلك العهد الأمير الفضل أحد أبناء أبي يحيى أبي بكر على نحو تعيين ولده أبي العباس بقفصة وولده خالد بالمهدية وولده أبي فارس بسوسة ... ابن القنفذ : الفارسية.
(٣٢) الاشارة هنا إلى الحرب الأهلية التي كانت تشهدها المنطقة بين الزّعماء المحليين وأنصارهم ... ابن القنفذ : الفارسية ...
(٣٣) لا ينبغي أن نغفل هنا دور هذه المنشآت التي عرفت بالمدارس ، إنها ـ في الواقع ـ عبارة عن" أحياء جامعية" تؤوي الطلاب من سائر الجهات حيث يتكونون ليصبحوا أطرا هامة في الدولة ... وقد عرفت مختلف جهات المغرب الكبير عددا من هذه المدارس ، وخاصة عهد بني حفص وعهد بني عبد الواد وبني مرين. أما عن مدرسة الكتبيين بمدينة تونس فيظهر أنها المدرسة التي بناها الأمير أبو زكرياء المتوفى عام ٧٠٠ ه. ـ ابن القنفذ : الفارسية ، صفحة ١٥٥ المصدر السابق.