قال في المختار من الكواكب المضية : واختلف في تسميته بالشهيد ، قال بعضهم :
أحب مملوكا وعف فأكمده الحب فقتله. وقال بعضهم : إنه مرض وكان مرضه علة الخوانيق فأشار عليه بعض الأطباء بالفصد فامتنع ، وكان مهيبا فما روجع ومات من هذه العلة بقلعة دمشق ، فإن كان مقصده في ترك الفصد عملا بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سبعون ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون الحديث» فقد تصدق عليه هذه التسمية وما أظنها إلا غلبت عليه كقول الناس في سلاطينهم فلان الشهيد وإن كان قد مات على فراشه تفاؤلا في حقهم. فإن قلت : كيف بقي عليه هذا ولم يبق على غيره قلت : لأنه ليس لغيره من الفتوحات كفتوحاته وغزواته وورعه وأوقافه وزهده وجميل أوصافه المحمودة ، وطالما ألقى نفسه على العدو وجاهد في الله حق جهاده طلبا للشهادة اه.
أقول : السبب الأول يستبعده العقل جدا عن أمثال نور الدين ، فإن التفكر في الجهاد وتجهيز الجيوش وعمارة الأسوار والقلاع وغير ذلك لم يدع في فؤاده مكانا خاليا ليسلك إليه الحب ويتمكن منه تمكنا يقضي به على حياته ، والذي يترجح عندي في سبب تسميته بالشهيد أن والده زنكي كان يدعى الشهيد لأنه قتل على قلعة جعبر كما تقدم فصار يقال لولده محمود نور الدين بن الشهيد ، ثم لكثرة الاستعمال حذفت كلمة ابن اختصارا.
قال ابن الأثير : وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل ، وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم ، ولنذكر ههنا نبذة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به ، فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه ، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا في الذي يخصه من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة من الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل له منها في السنة نحو العشرين دينارا ، فلما استقلتها قال : ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيرا بالليل وله فيه أوراد حسنة ، وكان كما قيل :
جميع الشجاعة والخشوع لربه |
|
ما أحسن المحراب في المحراب |