وأخذهم فقتلوا بعضهم وحمل الباقي أسرى إلى حلب فقتلوا وكانوا يزيدون عن ألف وخمسمائة ، ولما نزل الفرنج بأنطاكية جعلوا بينهم وبين البلد خندقا لأجل غارات عسكر أنطاكية عليهم وكثرة الظفر بهم ، ولا يكاد يخرج عسكر أنطاكية ويعود إلا ظافرا ، وجعل باغيسيان يستصرخ الناس على البعد والقرب ، وكان حسن التدبير في سياسة العسكر ، وجمع كربغا صاحب الموصل عسكرا عظيما وقطع به الفرات ، ووصل دقاق وطغتكين وجناح الدولة ، ووصل سكمان بن أرتق وفارق رضوان وصار مع دقاق ، ووصل وثاب بن محمود ومعه جماعة من العرب ووصلوا تل منس وقاتلوها لأنه بلغهم أنهم كاتبوا الفرنج وأطمعوهم في الشام ، وقرر عليهم دقاق مالا أخذ بعضه ورهائن على الباقي وسيرهم إلى دمشق ، وسار دقاق والعساكر إلى مرج دابق واجتمع بكربغا فيه في آخر جمادى الآخرة ورحلوا منه نحو أنطاكية.
فلما كان ليلة الخميس أول ليلة من رجب واطأ رجل يعرف بالزرّاد من أهل أنطاكية وغلمان له على برج كانوا يتولون حفظه ، وذلك أن باغيسيان قد كان صادر هذا الزرّاد وأخذ ماله وغلته ، فحمله الحنق على أن كاتب ميمند ( بيمند ) وقال : أنا في البرج الفلاني وأنا أسلم إليك أنطاكية إن أمنتني وأعطيتني كذا وكذا ، فبذل له ما طلب وكتم أمره عن باقي الفرنج تسعة قوامص مقدمين عليهم كندافري وأخوه القمص وميمند وابن أخته طنكريد وصنجيل وبغدوين وغيرهم ، فجمعهم ميمند وقال لهم : هذه أنطاكية إن فتحناها لمن تكون ؟ فاختلفوا وكل طلبها لنفسه ، فقال : الصواب أن يحاصرها كل رجل منا جمعة فمن فتحت في جمعته فهي له ، فرضوا بذلك ، فلما كانت نوبته دلى لهم الزرّاد لعنه الله حبلا فطلعوا من السور وتكاثروا ورفع بعضهم بعضا وجاؤوا إلى الحراس فقتلوهم ، وتسلمه ميمند بن الأسكرت وطلع الفرنج في سجرة هذه الليلة إلى البلد وصاح الصايح من ناحية الجبل ، فتوهم باغيسيان أن القلعة قد أخذت ، وخرج من البلد جماعة منهزمين فلم يسلم منهم أحد ، ولما حصل بالقرب من أرمناز ومعه خادم من غلمانه وقع عن ظهر فرسه فحمله الخادم الذي كان معه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وعاد فسقط وأدركه الأرمن فهرب الخادم عنه ، وقتله الأرمن وحملوا رأسه إلى الفرنج ، واستشهد في ذلك اليوم بأنطاكية ما يفوت الإحصاء ويجاوز العدد ونهبت الأموال والآلات والسلاح وسبي من كان بأنطاكية ، ووصل هذا الخبر إلى عمّ وإنّب فهرب من كان بهما من المسلمين وتسلمها الأرمن.